سلطنة عُمان.. أرخبيل الهويات
إن الهوية الاجتماعية هي تصورنا حول من نحن؟ فالهوية الاجتماعية تتشكل إثر عمليات التفاعل، والبحث في أوجه التشابه والاختلاف، وتتركب محدداتها على مفهوم الشراكة الثقافية بين مكونات متنوعة هوياتياً، ولا تقوم هذه الشراكة على معنى سلبي أي تقف عند طُرق الرصد والتوصيف وإقامة الحواجز بين الجغرافيات الثقافية المتعددة، بل تُنتج هوّية الأمم من خلال أشكال من اندماج وصهر وتفاعلات مُنظمة ما ينتهي إلى توحيد البنى الاجتماعية المختلفة فيها، توحيدٌ هو التعبير الأسمى عن خصوصيتها، والأمم كثيرة التنوع تؤسس وجودها الحضاري عبر بناء الذات الكلية المُعبرة عن هذا الأرخبيل السيسيولوجي.
إن الهويات التي تشكل الانتماء الاجتماعي في سلطنة عُمان تعيش حالات من تحديدات مستمرة وهذه التحديدات هي التي تصنع لها حضورها العالي كونها التعبير الأسمى على مجمل تضاريس الظاهرة، ولذا فإن تاريخ هذا البلد كاشف جداً عن تمازج يصل حد الوحدة الثقافية التي حدثت عبر تمشيج مستمر وْطّن للتعدد الثقافي فيها، ولذا فإن سلطنة عمان لم تعش حالة انقطاع تاريخي كالذي جرى في كثير من دول المنطقة وليس الأمر يتعلق فقط بتاريخ قديم نشأت فيه الدولة وتشكل فيه المجتمع بل الجوهري في الأمر هو كيف توافقت مياهه الهوياتية، وتمجدت في مسار متين جعل عمليات الانتقال لسلاسل الانتماء تتكاثف فوق نفسها للحد الذي جعل لهذه الهوية روحها الخاص، وتاريخها الممُتن بالترميز والأَمْثَلْة.
إن الدارس لتاريخ سلطنة عُمان، تاريخها الاجتماعي يحتاج إلى أدوات تحليل مختلفة، ولذا فإن مهمة عالم الاجتماع الطامح لممارسة الدرس في عُمان أن يتحلى بالموضوعية كممارسة كونه يجد نفسه أمام توافق مستمر لهوية قديمة متجددة تتماسك عبر أواصر شادّة تجعل كل مجموعة اجتماعية حاملة عبئها الخاص الذي تساهم به في الصورة الأكبر لهوية هذا البلد، إننا وعبر قراءات عامة لتاريخ سلطنة عُمان أمام هوية متماسكة ترتقي إلى ما يسميه علم الاجتماع بـ«الهوية الوطنية» وهذه الهويات متجايلة الممارسة الرمزية التي تفصح عن نفسها في كل شيء عُماني، والشاهد على ما نذهب إليه من حقيقة التنوع العماني أنه تنوع وليس تعدد، أي أن الخصائص الصانعة للهوية الجمعية للعُمانيين قادرة على سرد حكايتها الخاصة والمتمايزة عن بقية المنطقة.
إن مقولة (الهوية العُمانية) حقيقية وتحمل سماتها الجمالية والموضوعية وما يصنع خصوصيتها أنها تقوم على تحديدات وليس تراتبية وهذا يعني أن ما شكّل حضورها الثقافي هو عمليات من الاتصال المستمر بين الذات والتاريخ والحاضر، وهي بهذا الشكل لا تخضع إلى التصنيفات التي يمارسها عالم الاجتماع التقليدي ذلك الذي يقول بهويات خاصة يمكن فحصها منفصلة عن بعضها البعض، فالحقيقة أن الهوية العمانية تعيش حالات مستمرة من الانتقال البيني محتفظة بنسبياتها الخاصة وهي نسبيات تتغذى على بعضها البعض مما يجعل منها قوة متماسكة وبالغة القوة تستطيع أن تحتكر تصنيفها الخاص وأن تحتقب وعيها الاجتماعي متحرراً من الحدود المجسدة في الميدان الاجتماعي، ومن مظاهر هذه القوة البلاغات العالية في «الزي واللغة والسلوك...) فهي مظاهر دالة على عمق التعيين الهوياتي وتتكتم على غنى بالغ، وحضور باذخ غير مكتشف بالدرجة الكافية رغم فعاليته داخل الحدود المختلفة.
وبذا فإن ما يميّز سلطنة عُمان هو اشتراك أفرادها في هوية تربطهم بعضهم ببعض، وتكّون هوية الجماعة هو ما يمنح الآخرين القدرة على فهم طبائع ثقافتها وحقائق وجودها الاجتماعي، ومن ثم يسمح للآخر أن يؤسس عمليات التواصل معها عند أفق فهمها، ولذا فإنه لا يكون هناك مجتمع بدون هوية اجتماعية.
إن المنطق النوعي الذي تعيش فيه الهوية العمانية يستخدم قوانين اجتماعية مختلفة العلاقات وتحكمها آليات لا تُخضع نفسها لتركيب الطبقة أو الفئة بل هي حَالّة في ذوات متصلة ومنظومية تمنح الشخصية العُمانية حضورها الخاص، ولندلل على ذلك فإننا نجد في كثير من سلوك العُمانيين، سلوكهم العام تضمينات هادئة وعمومية تجعلنا نثق كثيراً في تجسّدات هذه الهوية للدرجة التي تجعلها هوية لا يستهان بعموميتها رغم التنوع الثقافي الذي تعبر عنه هذه الشخصية، ولذا فإننا أمام هوية جماعية عصيّة على عمليات التصنيف والترتيب المجرد، وهذا مما يوقع على عاتق دارسها مَهمات نموذجية تفرض عليه ألا يستخدم درس هزيل لفهم هذا التعقيد الجميل، ومما نقول به في خاتمة هذه المقال حول الهوية العمانية بالغة الطول في مضمار البحث السيسيولوجي المعاصر، فإنها تحتاج إلى درس خاص يأخذ في اعتباره أنه أمام ظاهرة اجتماعية تمتاز بهداياها الخاصة للدرس السيسيولوجي وتفتح أمامه عالم من الرمزيات المكتنزة بالحقائق الاجتماعية الدالة على شعب وبلد عريق عظيم.
غسان علي عثمان كاتب سوداني