روسيا والعزلة الرقمية الطوعية

10 سبتمبر 2024
10 سبتمبر 2024

الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها روسيا ضد موقع الفيديو الشهير «يوتيوب» تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن حرية الرأي والتعبير التي ظلت لفترة طويلة تحظى بإجماع عالمي كحق من حقوق الإنسان قد أصبحت في مهب الريح حتى بعد تعدد منصات النشر وتنوع شبكات التواصل الاجتماعي العالمية.

مثلما أتاحت شبكة الإنترنت وما تولد عنها من منصات اتصالية الفرصة لنمو وازدهار تلك الحرية في مناطق كثيرة في العالم ولفئات عديدة كانت محرومة إلى حد كبير من الحق في التعبير، ها هي الدائرة تدور وتصبح هذه الوسائل الاتصالية الجديدة عرضة لكل ما شهدته وسائل الإعلام والاتصال التقليدية من تضييق ورقابة أطاحت بمزاياها المتفردة خاصة قدرتها على تخطي الحدود القومية وعصيانها على الرقابة الكاملة.

كان من الصعب في البداية إخضاع الوسيلة الجديدة للرقابة مثلما كان الحال مع الوسائل الاتصالية التقليدية، ومع ذلك توحدت جهود الحكومات في السيطرة على قطاع الاتصالات داخل الدولة ومن ثم التحكم في النفاذ لها وتقنين استخدامها.

ومع تطور شبكة الإنترنت وما قدمته من حريات جديدة، طورت الحكومات في دول العالم المختلفة المتقدمة منها قبل النامية قيودا جديدة لم تكن معروفة في السابق استخدمتها كخطوط دفاع قوية تستطيع من خلالها فرض رقابتها الشديدة ليس فقط على المحتوى، ولكن على الشبكة ككل. ووصل الأمر في بعض الدول إلى حجب الشبكة تماما عن مواطنيها في أوقات أزمات محددة. ومع زيادة استخدام شبكات التواصل الاجتماعي اتجهت الدول إلى ملاحقة تلك الشبكات تارة بالدعاوى القضائية والتعويضات الضخمة وقوانين الاحتكار كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وتارة بإغلاقها تماما أمام مواطنيها واستبدالها بشبكات ومنصات وطنية يمكن مراقبتها. ومن الطبيعي أن يزداد التعنت الحكومي مع شبكات التواصل الاجتماعي العالمية في أوقات الحروب والأزمات فتصبح الرقابة عليها أشد، ولعلّ هذا ما يفسر ما قامت به روسيا في الأشهر الأخيرة في مواجهة شبكة «يوتيوب» التي كانت الشبكة الوحيدة المتاحة لمواطنيها بعد إغلاق كل الشبكات الغربية الأخرى التي تم حظرها بعد وقت قصير من الحرب.

الذي حدث في روسيا حدث في دول أخرى في العالم، إن هذه الدول حاولت وما زالت منع مصادر المعلومات البديلة من التسلل إلى مواطنيها ودفع هؤلاء المواطنين بعيدًا عن تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي الأجنبية. كان اليوتيوب هو آخر شبكة مفتوحة أمام الروس حتى أيام قليلة وكان يستخدمه وفقا لتقارير السوق نحو 95 مليون روسي يشكلون نحو 80 بالمائة من عدد السكان وكان يمثل رابع أكثر المنصات زيارة على الإنترنت في روسيا، بعد جوجل ومحرك البحث الروسي ياندكس وواتساب.

البلد التي تخوض حرب استنزاف دامية مع أوكرانيا ومع الدول الغربية بوجه عام، سرعان ما دخلت حربًا رقمية موازية مع شركات التقنية الأمريكية العملاقة. ومؤخرا أرادت معاقبة عملاق التكنولوجيا الرقمية «جوجل» التي تمتلك «يوتيوب» بسبب حظر محرك البحث العالمي الشهير بعض القنوات الروسية المؤيدة للكرملين على «يوتيوب»، ورفض حظر القنوات التي تديرها وسائل إعلام مستقلة ونشطاء مناهضون للحكومة الروسية ومعارضون لاستمرار الحرب في أوكرانيا.

ووفقًا لتقارير متبادلة بين الطرفين (جوجل والحكومة الروسية) فقد حظرت منصة يوتيوب أكثر من 3000 قناة روسية مرتبطة بالمؤيدين للحرب وتابعة لوسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة. وقد اعترضت روسيا على ذلك وطالبت بإعادة أكثر من 200 قناة على يوتيوب تابعة لوسائل إعلام مؤيدة للكرملين ووكالات حكومية وشخصيات عامة أخرى. وينظر الروس عمومًا إلى شركة جوجل باعتبارها تنتهج سياسات معادية لروسيا وأنها تسارع إلى إزالة قنوات الشخصيات الروسية العامة من مدونين وصحفيين وفنانين الذين يختلف موقفهم عن المواقف الغربية.

لقد سبق أن فرضت الحكومة الروسية غرامة بلغت مائة مليون دولار على جوجل وصادرت أصولها المحلية مما أجبر الفرع الروسي لها على إعلان إفلاسه عام 2022. ورغم انسحاب جوجل من السوق الروسية، فإنها أبقت على خدمات اليوتيوب والبريد الإلكتروني «جيميل». وبعد أن بدأت الحكومة الروسية في الأيام الأخيرة في خنق «اليوتيوب» بخفض سرعة تحميل الفيديوهات عليه مما أجبر المستخدمين على الخروج منه، هل يمكن القول إن روسيا دخلت أو بالأصح أدخلت نفسها في عزلة رقمية طوعية.

نعم هي عزلة رقمية اختارتها روسيا ظنًا منها أن هذه العزلة تصب في صالح أمنها الوطني الذي تريد حمايته من الدعاية الغربية الهدامة. لقد كانت روسيا أمام خيارين لا ثالث لهما إما أن تغض البصر عن المحتوى المعارض للحكومة الذي تمتلئ به منصات التواصل الاجتماعي، وفي المقابل الاستفادة مما تتيح تلك المنصات من نوافذ مفتوحة على العالم تستطيع من خلالها الدفاع عن قضاياها وتقديم رؤيتها للأحداث، ومناهضة حملات الدعاية التي تواجهها.

إن الرؤية التي تحرك الإجراءات الروسية في مواجهة شبكات التواصل الاجتماعي الغريبة تقوم على فكرة «السيادة الإعلامية» التي تريد أن تفرضها الحكومة الروسية على كامل الأراضي الروسية والتي تعني عدم السماح بتسلل رسائل إعلامية معادية للحكومة عبر شبكات التواصل الاجتماعي. ولعل هذا ما دفع هيئة الرقابة على الاتصالات إلى إصدار قوانين متعددة لتحقيق هدف إنشاء «إنترنت سيادي» وجعل روسيا مستقلة عن شبكة الويب العالمية وشركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، مثلما انفصلت الصين وإيران من قبل عن الشبكة العالمية.

في تقديري أن روسيا لن تكون الدولة الأخيرة التي تعزل نفسها إلى حد كبير عن البيئة الرقمية الغربية، طالما ظلت تلك البيئة معادية لأطراف عديدة في العالم. ويرتبط الأمر هنا بقدرة الدول على تقديم بدائل رقمية للشبكات الاجتماعية لمواطنيها. وإذا كانت دول مثل الصين وإيران وروسيا قد سلكت هذا الطريق الصعب، فإن دولًا أخرى في إفريقيا وآسيا وأمريكا قد تكون مرشحة للانضمام إلى قائمة قد تطول من الدول التي ترفض الهيمنة الغربية على الشبكة العالمية وشبكات التواصل الاجتماعي.

علينا في العالم العربي أن نستعد لمثل هذه الإجراءات، خاصة ونحن نواجه عداءً حقيقيا على معظم هذه الشبكات التي تحظر المحتوى المؤيد لغزة وحركة المقاومة حماس بينما تسمح للمحتوى الصهيوني المليء بالعنف والكراهية بالبث دون قيود.

أ.د. حسني محمد نصر أكاديمي في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس