رحيل معلّم

15 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024

لم يكن الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا (1935 – 2024)، الذي غيّبه الموت الأسبوع الماضي، مجرد رقم عادي في حركة الشعر اللبناني الحديث، وربما العربي أيضا. فالرجل على مرّ تاريخه وعمره المديد، عرف كيف يصنع لنفسه مكانة فعلية، مميزة، خاصة، توزعت على أكثر من صعيد، بدءا من مجلة "شعر" )الأسطورية(، وانتهاء بدواوينه الأخيرة التي صدرت قبل رحيله بفترة وجيزة، ومن بينها أيضا مذكراته، وكتاب آخر من المفترض أن يصدر قريبا وفق ناشره سلمان بختي (دار نلسن) يجمع فيه ما كتبه (شوقي أبي شقرا) من مقالات عن أصدقائه الراحلين.

بيد أن انطلاقة رحلة شوقي أبي شقرا الشعرية، لم تكن غارقة في هذه التجربة الحداثوية، التي ذهبت إلى أقصاها. لقد بدأت هذه الرحلة الكتابية مع مجموعة "حلقة الثريا" (في خمسينيات القرن الماضي) وقد كان واحدا من مؤسسيها، والتي نشرت أعمالها الأولى في مجلة "الحكمة" اللبنانية، وهي بدت غارقة في هذه الكلاسيكية اللبنانية التي نجد منبعها في كتابات أمين نخلة والأخطل الصغير والياس أبو شبكة وغيرهم ممّن أعطوا زخما حقيقيا للشعر العربي في بداية القرن العشرين. إلا أنه مع تقدم التجربة، بدأ أبي شقرا في التميز عنها عبر كتابة قصيدة التفعيلة. ومع ذلك، بقيت هذه القصيدة الجديدة، تتكئ على موروث تقليدي نجده امتداده في الشعر العربي. لذا يمكن القول إن خروجه من عباءة هذه الكلاسيكية جاء فعلا مع "مجلة شعر"، الذي انتسب إليها منذ بدايتها وكان أحد محرريها الرئيسيين.

خروج أبي شقرا عن الوزن التفعيلي، لم يكن بالطبع مع أعداد المجلة الأولى، بل حدث في مرحلة لاحقة، ليتبنى بعدها قصيدة النثر، وكأنه كان يبحث خلال كل تلك الفترة الماضية، التي سبقت، عن صوته الخاص، عن مناخه، عن أسلوبه، الذي بقي مرافقا له حتى كلماته الأخيرة. في هذا الصدد، ربما تجدر الإشارة إلى ما كتبه الباحث الإيطالي الأب جاك أماتييس السالسي في كتاب "خميس مجلة شعر" والذي تُرجم قبل سنتين إلى اللغة العربية (دار نلسن أيضا) من أن أبي شقرا هو أول من كتب القصيدة النثرية من بين أعضاء هذه الحركة، ومن بعد كتاباته جاءت تنظيرات كلّ من أدونيس وكتابات أنسي الحاج حول قصيدة النثر. بهذا المعنى، ثمة حق تاريخي علينا أن نعيد التفكير فيه، أي إعطاء أبي شقرا حقه في أن يكون رائد هذه القصيدة، على الأقل ضمن الحركة الشعرية التي تأسست حول المجلة.

حق آخر لا يمكن تجاهله أبدا في كون شوقي أبي شقرا هو من أسس أول صفحة ثقافية في الصحافة اللبنانية (وربما العربية، فيما لو استثنيا الصحف المصرية على ما أعتقد). صحيح أن قسما من صحافة لبنان التاريخية، كانت تضم بين كتّابها أسماء العديد من الشعراء والنقاد والقصاصين الذين ساهموا في الكتابة والتعليقات، ولكن لم تكن هناك صفحات يومية خاصة بالثقافة (ولا أتحدث هنا عن المجلات الثقافية التي كانت موجودة يومها مثل "الآداب" و"الأديب" و"الطريق" و"الثقافة الجديدة" وغيرها). لذا، جاءت الصفحة الثقافية لجريدة "النهار"، في ستينيات القرن الماضي، لتكون أكثر من مجرد صفحة يومية، إذ سرعان ما تحولت إلى مختبر حقيقي للأدب الجديد كما لباقي الفنون والثقافات: بدأنا نقرأ فيها النقد المسرحي والتشكيلي والسينمائي والتلفزيوني والموسيقي وبالطبع الأدبي والفكري. ربما مناخ بيروت في تلك الفترة، ساعد على تكوين هذه الصفحة، إذ كانت المدينة تعيش في نهضة ثقافية لا مثيل لها بين أقرانها من الحواضر العربية، ولتكمل "النهار" مسيرة هذه الثقافة لاحقا حين أصدرت أيضا ملحقها الثقافي الأسبوعي الخاص بها، والذي ترأس تحريره أنسي الحاج، وقبل أن يبدأ أدونيس بتأسيس صفحة ثقافية في صحيفة "لسان الحال" ويبدأ الكتابة فيها أيضا. بهذا المعنى، امتدت مجلة "شعر"، لتخرج من القصيدة البحتة، كي تصب في مختلف مجالات الثقافة، على يد من كان يدير تحريرها فعليا (الأسماء التي ذكرتها للتو، والتي شاركت العمل مع مطلق المجلة ومؤسسها يوسف الخال).

لقد عرف شوقي أبي شقرا يومها كيف يحول صفحته اليومية، إلى منبر ثقافي شامل اجتمعت فيه أسماء كثيرة، لبنانية وعربية، عرف امتدادا واسعا، وحضورا كبيرا، قبل أن تنافسها، لاحقا، في ثمانينيات القرن الماضي، صفحة "السفير" الثقافية. قد يكون الفرق، في أن النهار بقيت محسوبة على الليبيراليين وعلى بعض "اليمينيين" بمعنى من المعاني، بينما أصبحت ثقافة "السفير"، خاصة باليساريين وداعمي القضية الفلسطينية، والمنحدرين من حركة القوميين العرب. لكن لا يعني هذا أن صفحة شوقي أبي شقرا كانت تقف ضد القضية الفلسطينية، بل على العكس تماما، فغالبية أعضاء حركة مجلة "رصيف" الفلسطينية (علي فوده، ورسمي أبو علي، وغيلان وغيرهم ممّن "تمرد" على الثقافة الفلسطينية "الرسمية")، لم يكتبوا ولم يخرجوا إلا من صفحة "النهار".

عديدون هم من ظهرت أسماؤهم للمرة الأولى عبر صفحة "النهار". كان شوقي أبي شقرا ماهرا في "اصطياد" الأصوات الجديدة، الناشئة، التي بدأت لتوها بالكتابة الشعرية. بهذا المعنى، لعب أيضا الدور الكبير في إطلاق أجيال كان يجد أنها تستحق فرصة الظهور، إذ وجد أن كتاباتها جديرة بأن يصل إلى القارئ وأن يلقى عليها الضوء. ومع هذا الدور الذي لعبه في اكتشاف كُتّاب جدد، لم ينس بالطبع مكانة الأسماء الكلاسيكية، لذا بدت صفحته مزيجا جميلا من أجيال متعاقبة، تتجاور في حوار ونقاش ساهم فعلا في خلق حركة ثقافية حقيقية تقوم على احترام منجز الكتابة.

أشرت في بداية كلامي إلى أن شعر أبي شقرا لم يكن ذاك الشعر التجديدي الكبير، بل أتى الأمر في مرحلة لاحقة. فبعد هذا البحث، وجد لغته التي لا تشبه فعلا أي لغة شعرية أخرى، لا حين نقارنها مع زملائه الذين كتبوا في "شعر" ولا تلك التي كانت تكتب في الشعر السائد عربيا في تلك المرحلة. لقد وصل أبي شقرا، إلى مكان لم يسبقه إليه أحد، ولا أعتقد أن من جاء بعده، استطاع تقليده. ثمة بصمة خاصة به، عرف كيف يتخلى فيها عن الإطناب المسيطر ليكتب نوعا من حلمية طفولية مرتبطة بأجواء الريف والقرية. مع العلم أنه يجب التمييز هنا، بمعنى أنه لا يستعيد أدب القرية اللبناني الذي وجدناه منذ القرن التاسع عشر. لقد بنى ريفه الخاص، وقصره الخاص، الذي يحمل فقط اسمه فقط. وهذا ليس بالأمر السهل بتاتا في الشعر. كان معلما حقا. وسيبقى معلما فعليا في تاريخ الحداثة العربية.