رؤية عُمان والحياد الصفري

14 أكتوبر 2024
14 أكتوبر 2024

مع تفاقم المخاطر الناتجة عن التغيرات المناخية على كوكب الأرض وتداعياتها السلبية، فلقد أصبح من المهم أن تخطو الدول والمجتمعات البشرية خطوات فعالة لتحقيق مستهدفات بيئية نظيفة ومستدامة، حيث ظهر في العقدين الأخيرين بداية الالتفات للقضايا المتعلقة بتغير المناخ وتأثيراته على الأرض، حيث بدأت الجهود في السنوات السابقة للعام 2000م من خلال التركيز على تقليل الإنبعاثات الكربونية بشكل عام، وعند نهاية التسعينات وبداية الألفية ظهر مصطلح الحياد الكربوني وتزايد الاهتمام بطرق تعويض الإنبعاثات والتأكيد عليه من خلال برتوكول كيوتو في اليابان 1997، وفي السنوات التالية تصاعد استخدام مصطلحات الحياد الكربوني والحياد الصفري في الإستراتيجيات البيئية للدول والمعاهدات الدولية كاتفاقية باريس للمناخ 2015 والتي كان من أهم أهدافها هو الحد من الاحتباس الحراري من خلال استهداف الحياد الكربوني بحلول منتصف القرن الحالي، وكما نلاحظ أنه في السنوات الأخيرة أصبح مفهوم الحياد الصفري هدفا رئيسيا للدول و مؤسسات المجتمع المدني والشركات الكبرى في العالم.

عند الرجوع إلى مصطلحات الحياد الصفري أو الحياد الكربوني فإننا نشير إلى هدف تقليل انبعاث ثاني أكسيد الكربون إلى اقل مستوى ممكن، بالإضافة إلى تبني مشاريع بيئية بهدف الحد من الكربون أو ابتكار طرق لامتصاص الكربون والتخلص منه، كذلك العمل على استبدال مصادر الطاقة الإحفورية بمصادر طاقة نظيفة ومستدامة، علاوة على الجهود المبذولة في زيادة الرقعة الخضراء والتقليل من الأنشطة الصناعية الغير نظيفة.. لذا فإن أهمية الحياد الصفري تكمن في العمل على مواجهة التغيرات المناخية العالمية وذلك بالتقليل من مستوى الإنبعاثات الكربونية وبالتالي التقليل من تأثير الاحتباس الحراري والذي يعد المسبب الرئيسي لتغيرات الطقس وارتفاع مستويات البحار نتيجة ذوبان المناطق الجليدية، حيث يسهم الحياد الكربوني في تحسين جودة الهواء والتنوع البيولوجي واستدامة البيئة.

إن عملية قياس الانبعاثات الكربونية تعتبر أساسية لفهم وتقييم التأثيرات البيئية لأنشطة البشر وذلك للعمل على اختيار أفضل الإستراتيجيات للتقليل من هذه الانبعاثات أما بالنسبة لطرق قياس الإنبعاثات الكربونية فإنها تأتي بشكل مباشر من خلال استخدام الأجهزة لقياس كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من السيارات أو المصانع، بالإضافة إلى التحليل الكيميائي للغازات بواسطة جمع عينات من الهواء وتحليل تركيز ثاني أكسيد الكربون وأية غازات أخرى، أو القياس بالطرق الغير مباشرة باستخدام البيانات والمعادلات و نمذجة الإنبعاثات، وذلك بحساب كمية الوقود المستخدم أو المواد الخام وتقدير إجمالي انبعاثات الغاز في الغلاف الجوي، بالإضافة إلى تقييم دورة حياة المنتج أو العملية لقياس جميع الانبعاثات المرتبطة بكل مرحلة من مراحل دورة الحياة من المستخلص الخام إلى التصنيع، وبشكل عام تعتبر عملية قياس الانبعاثات الكربونية عملية مختلفة الأبعاد وتتطلب استخدام أدوات وآليات متنوعة وذلك بهدف الحصول على أدق البيانات وأكثرها موثوقية.

كما أن العديد من دول العالم وضعت أهدافا واضحة فيما يتعلق بتحقيق الحياد الصفري وذلك بسبب المخاوف المتعلقة بالتغيرات المناخية وسعيا منها للحفاظ على الاستدامة البيئية، حيث أقر الإتحاد الأوروبي خطة الصفقة الخضراء الأوروبية بهدف الوصول إلى مرحلة الحياد الصفري وتحويل أوروبا إلى قارة محايدة مناخيا بحلول العام 2050م، كما أن المملكة المتحدة تعتبر أول دولة في مجموعة الدول السبع تصدر قانونا إلزاميا للوصول إلى مرحلة الحياد الصفري بحلول العام 2050م، أما بالنسبة للصين والتي تعتبر من أكثر دول العالم تصديرا للإنبعاثات الكربونية فقد حددت سنة 2060م، لتحقيق هدف الحياد الصفري وذلك بالعمل على زيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، كذلك هناك خطط جادة فيما يتعلق بالوصول إلى مرحلة الحياد الصفري في العام 2050م بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، اسبانيا وفرنسا.

وبالتزامن مع الجهود الدولية لتحقيق الحياد الصفري، فإن أهم الشركات الكبرى العالمية استشعرت المسؤولية فيما يتعلق بالتغيرات المناخية ووضعت خططا واعدة للحد من الإنبعاثات والعمل على الاستدامة البيئية، حيث التزمت شركة مايكروسوفت بإزالة الإنبعاثات الكربونية التي تسببت في خلقها منذ تأسيس الشركة في العام 1975 وذلك بحلول 2050م، من خلال تعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي لتتبع وإزالة الإنبعاثات الكربونية، بالإضافة إلى إحلال الطاقة النظيفة في مراكز البيانات التابعة للشركة والعمل على تمويل المبادرات المتعلقة بالحد من التلوث البيئي، وهذا الأمر ينطبق على شركات أخرى مثل ابل، أمازون، جوجل، تسلا وشركة شل النفطية، حيث يساهم تبني هذه الشركات الكبرى للممارسات المستدامة والحلول الخضراء في تحقيق الأهداف المتعلقة بالحياد الصفري.

من هنا جاء تأكيد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله، لأهمية الالتفات إلى خطورة التغيرات المناخية وتأثيراتها، والسعي لخلق مصادر طاقة نظيفة ومستدامة سعيا من الحكومة للوصول إلى مرحلة الحياد الصفري في عام 2050م، من خلال وضع الأطر القانونية والتشريعية، وتحفيز المستثمرين ورؤوس الأموال الأجنبية والمحلية لتسريع قطاع الطاقة المتجددة وذلك في خطاب جلالته بمناسبة الانعقاد السنوي الأول للدورة الثامنة لمجلس عمان 2023م، وعليه تم رسم خارطة طريق للمسارات المنظمة لتحقيق هدف الوصول للحياد الصفري دون التأثير على الأولويات الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بتدشين البرنامج الوطني للحياد الصفري والإستراتيجية الوطنية للانتقال المنظم للوصول إلى الحياد الصفري، كل هذه الإجراءات كان لها دور رئيسي في القفزة التي حققتها السلطنة العام 2024م في تصنيفها لمؤشر الأداء البيئي ب 95 مرتبة، محققة التصنيف 54 عالميا والثاني عربيا.

بالإشارة إلى الإستراتيجية الوطنية للانتقال المنظم للوصول إلى الحياد الصفري ومبادئها الرئيسية المتعلقة بالاستدامة البيئية وتقليل التكاليف المترتبة على التحول للطاقة النظيفة والوصول إلى مستوى آمن لمخاطر الإمدادات من خلال الاكتفاء الذاتي، والعمل على تقليل الآثار الاجتماعية للتحول مثل فقدان الوظائف، كذلك بالنسبة للآثار الاقتصادية بحيث يتم تحسين منافع الناتج المحلي وتحقيق الفوائد الاقتصادية بشكل عام، حيث تعد قطاعات الصناعة والنفط والغاز من أكثر القطاعات في إجمالي الانبعاثات الكربونية لعام 2021م، تليها قطاعات الطاقة والنقل والنفايات.

ولا بد هنا من الإشارة إلى جهود سلطنة عمان للحد من التلوث، حيث تضاعف عدد محطات مراقبة جودة الهواء إلى 49 محطة، كما زادت كمية النفايات المعاد تدويرها مقارنة بالنفايات المنتجة بنسبة 37%، و ارتفع عدد مصانع تدوير النفايات إلى 67 مصنعا، كما تراجعت نسبة الملوثات البيئية البحرية وارتفع مؤشر جودة البيئة البحرية، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة مؤشرات جودة المياه، وتشريعيا تم إصدار القرار رقم 8/24 بحظر استخدام أكياس التسوق البلاستيكية أحادية الاستهلاك، وكذلك تم تأسيس شركة هيدروجين عمان ( هايدروم ) ليكون لها دور رئيسي في إدارة قطاع الهيدروجين الأخضر وتنمية مشاريعه بالتعاون مع المطورين على المستوى المحلي والعالمي.

وبرغم مما أحرزته سلطنة عمان من تقدم ملموس في الاتجاه إلى تحقيق صافي انبعاث صفري، فإن من أكبر التحديات التي تواجهها هي محاولة التوازن بين الطموحات المتعلقة بالنمو الاقتصادي والتوسع في الصناعات و بين الاستدامة البيئية والمحافظة على معدلات تلوث أقل، لذا نرى أنه من الضروري التدرج في الانتقال من الاقتصاد المعتمد على النفط إلى الاقتصاد المعتمد على الطاقة النظيفة وذلك تجنبا للصدمات الاقتصادية التي عادة ما تصاحب مثل هذا الانتقال، كذلك فإنه من الضروري دعم الصناعات المرتبطة بالتكنولوجيا الخضراء، وذلك بموجب ما تتمتع به سلطنة عمان من مزايا طبيعية وجغرافية تدفع بشكل متوازن إلى الاعتماد على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والتقدم الكبير في تطوير استثمارات الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، كل هذه الجهود إذا ما تكللت بالنجاح فإن السلطنة سوف تصبح مصدرا عالميا للطاقة النظيفة وتجربة ملهمة لبقية دول العالم.

* ذي يزن بن هلال العامري كاتب عماني