دعونا نُعالج المسألة
نقول أحتاج وقتا لمعالجة الأمر. يعني هذا أنني سأحرق أياما، أسابيعا من عمري مفكرا، ومعيدا التفكير في مسألة ما. آمل خلالها أن لا أُشغل بأي مدخلات جديدة، فالمادة بين يدي -لوحدها- تفيض على قدرتي في أن أُفسرها، وأرتبها في سردية تجعل لألمي معنى. إنني أتألم أولا، وأُفكر في ألمي ثانيا. بإمكان هذا التفكير أن يُنجيني، أو يُهلكني. وإيجاد المعنى لا يدل على أكثر من الكشف عما قد تعنيه الإشارات العديدة التي أختار منها بانتقائية ما يُشبه على الأغلب شيئا مررتُ به سابقا. وبهذا فأنا أظلم نفسي -والآخر، وثمة آخر دائما- حين أضع ما حدث إزاء ما عرفته وألفته شخصيا. مسطرتي هنا هي التجربة، وأنا بوضعها فوق -فقليلا ما أضعها بجانب- ما حصل ويحصل استثني، وأقصي، وربما أضيف حتى من خيالي، بانتقائية على نحو يحرمني من الإبداع، من اجتراح معانٍ جديدة. أعداء هذا الإبداع يأتون على شاكلة "لكني أعرف نفسي"، "إن هذه التجربة تُثير فيّ شيئا خبرته في الماضي"، فأمضي بإصرار نحو التأكيد عما أعرفه عن نفسي، أو تأكيد الشبه بين ما خبرته وأختبره، واقعة في شرك التماثل: إنني أشعر بنفس الألم، وهذا يعني بالضرورة تشابه مسبباته. لعلنا بفعل هذا نُريد افتراض قيمة لأعمارنا. إذ لا يصح أن نُضيّع كل ما خبرناه. نُمعن في استثمار الدروس التي تعلمناها، متجاهلين دروسا جديدة محتملة تعد بها هذه التجربة الجديدة التي نريد وقتا لمعالجتها.
لكنني لستُ حرا في وقتي. لا تتأتى دائما المساحة في أن أُفكر. فإذا ما كان عندي واجب لا يحتمل التأجيل، عندها لا يبقى لي إلا الإجراء العملي بأن أدس بهمومي تحت السجاد، وأمشي فوقها؛ أن أضرب برأسي الثقيل لتغوص عميقا الأفكار المُعذبة، مفسحة السطح للتعامل مع اليومي والمُلّح. أحيانا أنساها تماما، فلا تعود للطفو إلا حين يُرّج الرأس على نحو غير قابل للتنبؤ عبر تحديقة سافرة في السماء الشتوية، أو فيلم يقول لك صديقك أن عليك أن تُشاهده حالاً. أحيانا، يؤلمك ما يؤلمك لدرجة أنك تريد أن تلهي نفسك عن التفكير فيه، آملا أن يتولى عقلك/جسدك أمر المعالجة والتشافي، دون أن تلطخ يديك.
عزيز عليك يُصاب بالسرطان، حبيب يجرحك دون قصد، أو تلك الأخبار التي تجد طريقها إليك عن الذين يُسجنون لآراءهم، أو الذين يُقتلون لهوياتهم، أو -ويا للجرأة- لأنهم عبروا عنها. تُمسك رأسك وتقول أحتاج وقتا لمعالجة الأمر. ثم تشعر وأنت تنزوي عن العالم بأن قرابة ما تنمو بينك وبين كل من يتألم. تدخل في حداد عليهم. تبكي.
الطريق إلى التعافي يكمن في كل ما يُفسر، يُقارب، يُصوب نحو - دون أن يُصيب بالضرورة. حين تقرأ شرحا علميا لمرضك، أو نظرية سلوكية تُفسر -أو تحاول- ما تمر به، أو يمر به العالم، تقول لنفسك: "آه لهذا يحصل ما يحصل". منبع هذا الارتياح ليس التوضيح وحده -أو الاتضاح أخيرا- وإنما في مجرد كونه موضوعا للتفحص والبحث. يعني هذا أنك لست وحدك، يعني أن هناك من يعمل جاهدا -من خلفك، ودون علمك- على العلاج، ويعني إمكانية التعافي. يفعل فيلم سينمائي أو كتاب أدبي العمل ذاته.
ما هي هذه المعالجة التي نتحدث عنها؟ إننا نجلس، نستدعي ما حصل، ومع كل اجترار يبرز، أو يغيب تفصيل ما بليونة كاملة، إلى أن تتشكل القصة. يفقد الشكل بعدها طواعيته، ويصير مغلقا في وجه القراءات الجديدة. هذا الإنغلاق الأصم يُكسبنا ثقة (متوهمة على الأغلب) في الشكل المستحدث. نحن بطبيعتنا حكاؤون. حكاؤون متحيزون بالضرورة. لهذا ندعو أصدقائنا للنظر معنا في المسألة. ونستنطقهم: "أخبرني رأيك المحايد تماما"، عالمين أن رأيا موضوعيا لن يخرج من جلسة المعالجة هذه، وأنه لا سبيل له في أي مكان آخر. بل الذي نسألهم إياه في الواقع هو أن يُعينونا على نسج السردية التي تُحررنا من إطالة التفكير، ومط المعاناة. يُفتشون معنا، ويُعيدون تعريف من نكون، وما يعنيه هذا الحدث الطارئ. واقعين مثلنا -أو على نحو أشد لأنهم مؤمنون بطبيتنا- في انتقائية تسعفنا وتواسينا.
أحيانا لا تأخذ حياة الفرد ومعنى وجوده شكل القصة، بل مجموعة قصص. يعترف حينها هذا الفرد بأنه "مجموعة إنسان"، وهذا جزء ضروري من كيف يرى نفسه، وكيف يؤول أحداث حياته. ينحى آخرون إلى نقض هذا الشعور الحدسي بوجود قصة تُفسر حياتهم. هؤلاء غالبا ينظرون إلى ذاكرتهم نظرة المشكك، ويُدركون أنها مخاتلة، وانتقائية. يعرفون أن ما تقوله السير الذاتية التي يكتبونها بأيديهم (بأنفسهم) لا يعكس بالضرورة من يكونون (من هم)، ولن يجعلهم أكثر حكمة في تنبؤ القادم بناءً على ما كانوه. هذا لا يعني أنهم عاجزون عن فهم هويتهم، كل ما يعنيه أنهم منفتحون على إعادة صياغتها بينما يعيشون القادم الغريب وغير المتوقع. هذا النوع من الانفتاح الذي يجب أن نُقبِل عليه سواء كنا من النوع الذي ينظر إلى حياته كشذرات متفرقة، أو كسرد متناسق موحد لحياتهم ومن هم.