خطط روسيا والصين لنظام عالمي جديد (2)
ترجمة قاسم مكي
أزمة أوكرانيا تتعلق أيضا "بالنظام العالمي" لأن لديها تداعيات دولية واضحة. فالولايات المتحدة تعلم أنه في حال هاجمت روسيا أوكرانيا وأقامت "منطقة نفوذها" الخاصة بها ستقدِّم بذلك سابقةً للصين.
خلال عهد شِي، أقامت الصين قواعد عسكرية حول كل المناطق المتنازع حولها في بحر الصين الجنوبي. وتهديدات بيجينج بغزو تايوان (وهي جزيرة ديموقراطية تتمتع بالحكم الذاتي وتعتبرها الصين محافظة متمردة) أيضا باتت أكثر علنية وتكرارا.
إذا نجح بوتين في غزو أوكرانيا سيزداد إغراء مهاجمة تايوان بالنسبة لشي وكذلك الضغط الداخلي على الزعيم الصيني من القوميين المهتاجين الذين سيستشعرون بذلك نهاية الحقبة الأمريكية.
من الواضح أن لدى روسيا والصين شكاوى شبيهة حول النظام العالمي الحالي. كما هنالك أيضا بعض الاختلافات المهمة بين مقاربتي موسكو وبيجينج. فروسيا حاليا أكثر استعدادا للمخاطرة العسكرية من الصين. لكن أهدافها النهائية قد تكون أكثر محدودية.
بالنسبة للروس يشكل استخدام القوة العسكرية في سوريا وأوكرانيا وغيرهما وسيلة لدحض الزعم الذي أطلقه الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بأن روسيا الآن ليست أكثر من قوة إقليمية. ويرى ديمتري ترينين الباحث بمركز كارنيجي في موسكو أن "روسيا في نظر قادتها ليست شيئا إذا لم تكن قوة عظمى".
لكن في حين تطمح روسيا في أن تكون إحدى القوى العظمى في العالم يبدو أن الصين تفكر في الحلول محل الولايات المتحدة بوصفها القوة الأبرز في العالم.
تعتقد آليزابيث إيكونومي وهي مؤلفة كتاب جديد بعنوان "العالم حسب الصين" أن بيجينج تهدف إلى إحداث "تغيير جذري للنظام العالمي" بحيث يتم إخراج الولايات المتحدة بشكل جوهري من المحيط الهادي وتحولها إلى مجرد قوة أطلسية.
وبما أن المنطقة الهندوباسيفيكية هي الآن مركز الاقتصاد العالمي، سيجعل ذلك الصين بالضرورة "رقم واحد".
في كتابه "اللعبة الطويلة"، يحاجج راش دوشي على ذات المنوال. يشير دوشي، وهو دارس للصين ويعمل بالبيت الأبيض، إلى مصادر صينية مختلفة في دفاعه عن الفكرة التي يطرحها وهي أن الصين تهدف الآن بوضوح إلى بسط هيمنة عالمية على النمط الأمريكي.
محاولة لبسط السيادة العالمية
يعكس الاختلاف في حجم طموحات الصين وروسيا الاختلاف في قدراتهما الاقتصادية. فاقتصاد روسيا يساوي الآن حجم اقتصاد إيطاليا تقريبا. وموسكو ببساطة ليست لديها الثروة التي تمكنها من دعم محاولة تحقيقها السيادة العالمية.
بالمقارنة الصين الآن، استنادا إلى بعض المعايير، أكبر اقتصاد في العالم. كما هي أيضا أكبر بلد مُصَنِّع ومُصدِّر في العالم. وسكانها الذين يبلغ عددهم 1.4 بليون نسمة حوالى 10 أضعاف سكان روسيا تقريبا. نتيجة لذلك، من الواقعي أن تطمح الصين إلى أن تكون البلد الأقوى في العالم.
لكن في حين تجعل الاختلافات في القدرات الاقتصادية لروسيا والصين الرئيس شي أكثر طموحا من بوتين إلا أنها تجعله في الأجل القصير أكثر حذرا.
هناك شيء من "استِماتة" المقامر، الذي يسعى إلى الكسب بكل السبل، في استعداد بوتين لاستخدام القوة العسكرية في محاولة تغيير توازن القوى في أوروبا. ويعتقد ترينين أن بوتين بعدما شهد الناتو وهو يتوسع في معظم ما كان في يوم ما الكتلةَ السوفييتية يرى الآن في أوكرانيا مركز دفاعه الأخير.
في بيجينج، بالمقارنة، يوجد إحساس قوي بأن الوقت والتاريخ في جانب الصين. كما لدى الصينيين أيضا أدوات اقتصادية لتوسيع نفوذهم لكنها لاتتوافر للروس مثل مبادرة الحزام والحرير. وهو مشروع يرتبط بحقبة شي. إنه برنامج عالمي بالغ الاتساع لإنشاء بنية تحتية ممولة من الصين وتمتد إلى داخل آسيا الوسطى وأفريقيا وأوروبا والأمريكيتين.
صارت أمريكا أكثر "حمائية". كما استخدمت الصين أيضا قوتها الاقتصادية لتوسيع نفوذها الدولي. فقد شهد الشهر المنصرم (يناير) تدشين الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة وهي منطقة تجارة حرة جديدة وشاسعة تضم الصين وعدة حلفاء استراتيجيين لأمريكا كاليابان واستراليا ولاتشارك فيها الولايات المتحدة. ومنحُ أو منع الدخول إلى السوق الصينية يزود الصين بأداة نفوذ غير متاحة لروسيا.
لكن هل ستنجح التدرُّجية (سياسة التدرج في تعديل النظام العالمي الراهن - المترجم)؟ أم هل ستحتاج روسيا والصين حقا إلى "لحظة درامية ما" لإيجاد النظام العالمي الجديد الذي تريدانه؟
يشير التاريخ إلى أن الأنظمة الجديدة الحاكمة للعالم تظهر بشكل عام بعد حادثة سياسية زلزالية مثل نشوب حربٍ كبرى.
تشكَّل جزء كبير من البناء المؤسسي والأمني للنظام العالمي الحالي مع انتهاء الحرب العالمية الثانية أو في أعقابها عندما تم إنشاء الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. واختيرت الولايات المتحدة مقرَّا لها. وبدأ سريان الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (الجات) عام 1948. وتم تكوين حلف الناتو في 1949. ووقعت المعاهدة الأمنية اليابانية الأمريكية في 1951. وتشكلت الجماعة الأوروبية للفحم والصلب (التي مهدت لنشوء الاتحاد الأوروبي) في عام 1951 أيضا.
بعد نهاية الحرب الباردة انهارت المؤسسات المنافسة التي يساندها السوفييت مثل معاهدة وارسو وتوسع الناتو والاتحاد الأوروبي حتى حدود روسيا. وانضمت الصين في عام 2001 إلى منظمة التجارة العالمية التي خلَفت "الجات".
السؤال الآن هو هل طموحات روسيا والصين في إرساء "نظام عالمي جديد" ستحتاج إلى حرب لكي تتحقق؟ الصراع المباشر مع الولايات المتحدة بالغ الخطورة في العصر النووي. وهو لن يحدث ما لم تخطيء كل الأطراف خطأ فادحا في حساباتها (وهذا شيء ممكن دائما). لكن روسيا والصين قد تشعران بأنهما تستطيعان تحقيق طموحاتهما من خلال "الحرب بالوكالة".
انتصار روسيا بلا معارضة في أوكرانيا قد يؤشر إلى ظهور نظام أمني جديد في أوروبا يشمل "منطقة نفوذ" روسية بحكم الأمر الواقع. ونجاح الصين في غزو تايوان سيُفهَم على نطاق واسع أنه علامة على نهاية الهيمنة الأمريكية في المحيط الهادي. وفي تلك اللحظة قد تختار بلدان عديدة، تعتمد في أمنها على الولايات المتحدة حاليا مثل اليابان وكوريا الجنوبية، التواؤمَ مع نظام جديد تهيمن عليه الصين.
كما يمكن بدلا عن ذلك أن يتشكل نظام عالمي جديد من خلال إذعان ضمني من واشنطن. لكن هذه النتيجة تبدو مستبعدة مع وجود إدارة بايدن في الحكم ما لم تكن هنالك تنازلات درامية في آخر لحظة من الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا.
غير أن دونالد ترامب قد يعود إلى البيت الأبيض في عام 2024. وهو يبدو،على الأقل لفظيا، متعاطفا مع بعض جوانب النظرة الروسية- الصينية للعالم.
الرئيس الأمريكي السابق حطَّ أحيانا من قدْر الناتو وأوحى بأن حلفاء أمريكا في آسيا يستفيدون منه بلا مقابل. وتحاشت فلسفتُه عن "أمريكا أولا" اللغةَ التقليدية عن الرسالة الأمريكية في دعم الحرية حول العالم. وفي بعض الأوقات كان ترامب أيضا صريحا في التعبير عن إعجابه بكل من شي وبوتين. وهو، كصانع صفقات كما يصف نفسه، متعاطف مع فكرة مناطق النفوذ.
رغما عن ذلك لايبدو أن روسيا والصين تميلان إلى عدم فعل أي شيء وانتظار عودة ترامب إلى البيت الأبيض. فالصينيون يعلمون حتى حزب ترامب الجمهوري يضم العديد من الصقور (المتشددين) العازمين على المواجهة مع روسيا والصين كلتيهما. وعلى أية حال، يمكن أن يحدث الكثير بين الآن والانتخابات الرئاسية الأمريكية التالية في نوفمبر 2024.
عدم صبر روسيا واضح من خلال استعداد بوتين لِفَرضِ أزمة حول أوكرانيا. وقد تعتمد إمكانية بسط نظام عالمي جديد أكثر ملاءمة لروسيا على نجاح أو فشل المقامرة الأوكرانية.
لكن حتى إذا أخفق بوتين في تحقيق أهدافه في أوكرانيا لن يختفي تهديد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. فالصين الصاعدة بقيادة الرئيس الطموح شي ستضمَن ذلك.
• جيديون راكمان صحفي بريطاني في جريدة الفاينانشال تايمز وحاصل على جائزة أورويل للصحافة السياسية