خطاب نتانياهو البائس
وسط موجة من الغضب الشعبي ليس في تل أبيب فقط، وإنما في كثير من دول العالم، راح رئيس وزراء إسرائيل (نتانياهو) يتحدث إلى العالم مساء ٢ سبتمبر ٢٠٢٤، من خلال خطاب يتسم بالغطرسة والاستعلاء ، بينما تل أبيب تموج بموجة عارمة من الغضب الشعبي باستثناء التيارات الصهيونية المتعصبة، التي تلقت هذا الخطاب بقدر هائل من الدعم، بينما تواصل إسرائيل عدوانها الغاشم ليس على قطاع غزة فقط وإنما على الضفة الغربية بقراها ومدنها، ومواصلة الاعتداءات التي يقوم بها المستوطنون الإسرائيليون، وبدعم من الجيش الإسرائيلي، كل ذلك يحدث وسط صمت العالم وتوقف الجامعة العربية عن أداء دورها، بل وربما برضى بعض ساستنا وبعض إعلامنا العربي.
لعل ما نلاحظه على خطاب نتانياهو مجموعة من النقاط المهمة: أولها، محاولة إلقاء التهم على وزير دفاعه ومعاونيه وأجهزة أمنه، محملا إياهم المسؤولية عما حدث في السابع من أكتوبر، وما حدث بعدها من ضربات موجعة لإسرائيل، وراح في محاولة بائسة لكسب تعاطف الإسرائيليين يعلن وبإصرار واضح عن مواصلة اجتياح غزة والضفة الغربية، غير عابئ بالرأي العام العالمي.
ثانيهما، ما يزال نتانياهو مصرا على أن السبيل الوحيد لاستعادة الأسرى هو مواصلة الحرب دون هوادة، وقال مضيفا إنه كان على وشك الوصول إلى الأسرى الستة الذين قضوا حتفهم لولا ضعف وتراجع أجهزته الأمنية ووزير دفاعه، بينما الحقيقة أن المقاومة كان قد أصدرت أوامر إلى حراس الأسرى بأنه في حالة استمرار الهجوم بهدف استخلاصهم بالقوة المسلحة فعلى الحراس أن يواصلوا مهمتهم، وقد علق أبا عبيدة عقب انتهاء نتانياهو من خطابه بأنه في حالة استمرار العدوان فعلى إسرائيل أن تستقبل كل أسراها في توابيت، وهي رسالة وصلت إلى الشعب الإسرائيلي، بينما نتانياهو لا يعبأ بحياة الأسرى، على الرغم من أن قادة جيشه وأجهزته الأمنية قد واجهوه بالحقيقة مؤكدين بأن استعادة الأسرى لا يمكن أن تتم إلا بالتفاوض.
ثالثا، لم يعترف رئيس وزراء إسرائيل في خطابه أو في كل التصريحات التي يصرح بها بتحمله أية مسؤولية، سواء فيما حدث في ٧ أكتوبر أو قبله أو بعده، حتى ولو كانت مجرد مسؤولية سياسية، وفي استعراض مسرحي واضح راح يتفاخر بأنه نصح (شارون) عند الانسحاب من غزة والقطاع بعدم التخلي عن معبر فلاديلفيا منذ عام ٢٠٠٥، وقد مضى على هذا الانسحاب ما يقرب من عشرين عاما، ولم يصرح ولو مرة واحدة ولا أجهزته الأمنية بأن معبر فيلادلفيا يشكل خطرا على إسرائيل، باعتباره المنفذ الآمن لتهريب الأسلحة للفلسطينيين، وهي التهمة التي راح يلقي المسؤولية بشأنها على الجانب المصري بطريقة استعراضية مستفزة، خصوصا وأننا نشهد صباح مساء شكل الأسلحة التقليدية البدائية التي تستخدمها المقاومة، وهي عبارة عن صواريخ صناعة يدوية ومتفجرات أعدها الفلسطينيون بأنفسهم، إلا أن نتانياهو ربما لا يعرف بأن الأرض الفلسطينية تقاتل مع أصحابها، وهي العامل الأكثر تأثيرا، فالفلسطينيون على بينة من كل شارع وحارة، وهو أمر يصعب على نتانياهو استيعابه.
رابعا، يؤكد نتانياهو بأن الحرب على غزة لن تتوقف طالما بقي السنوار وحماس في واجهة المشهد، دون أن يقتنع بأن ما تقوم به إسرائيل جعل الفلسطينيين جميعا ينضوون تحت لواء المقاومة، وعندما سئل نتانياهو من أحد الصحفيين عن مصير غزة في اليوم التالي لوقف الحرب، تلعثم الرجل وأجاب بكلام مرسل خاليا من أية معلومات، ويبدو أنه على ثقة بأن المقاومين لن يرحلوا من أرضهم، وأنهم هم وحدهم من يختارون قيادتهم، وعلى إسرائيل أن تغير من سياستها العدوانية والاعتراف بحقوق الفلسطينيين بإقامة دولتهم على حدود ٤ يونيو ١٩٦٧، إذا كانت راغبة في حياة شعبها والحفاظ على أمنه واستقرار حياته، لكن من الواضح أن نتانياهو يخوض الحرب من أجل مصلحته فقط، حرصا على مستقبله السياسي.
ومن الواضح أن نتانياهو لا يرى نهاية لهذه الحرب إلا بمزيد من الحرب، بينما حماس وكل قادتها يرون نهاية الحرب بالتفاوض، وهو موقف حضاري وسياسي ينم عن قدر كبير من الوعي بطبيعة الأزمة بكل تعقيداتها. القضية الأكثر وضوحا في الصراع العربي الإسرائيلي منذ بدايته أن الولايات المتحدة الأمريكية تقف وراء هذه الحرب داعمة لإسرائيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وما بعدها، مرورا بحرب ١٩٦٧، ثم حرب ١٩٧٣، التي فوجئ بها الرئيس الأمريكي (نيكسون) ووزير خارجيته (هنري كيسنجر) ، وقد فوجئا بعبور الجيش المصري إلى سيناء، وتقدم القوات السورية في طريقها إلى تل أبيب، وكانت صدمة كبيرة لأمريكا، وبداية لظهور كيسنجر، وهو المهندس الأهم في هذا الصراع، حينما راح يتواصل مع السوڤييت طالبا منهم القيام بدور ما، ومع الرئيس السادات ملوحا له بأنه آن الأوان لإنهاء هذا الصراع، بحل سياسي مقبول من الطرفين، في الوقت الذي كانت مطارات إسرائيل تتلقى أحدث المعدات العسكرية والطائرات من الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة لاستعادة الثقة في الجيش الإسرائيلي الذي انهار بشهادة رئيس وزرائه (جولدا مائير)، وبدخول الولايات المتحدة الأمريكية على المشهد دخل الصراع في أتون المفاوضات التي عوّل عليها الرئيس السادات، والذي أعلن في خطاب شهير بأن ٩٩٪ من اللعبة في يد الولايات المتحدة الأمريكية، وبرحيل الرئيس نيكسون (٩ أغسطس ١٩٧٤)، ومجيء الرئيس (فورد) قاد كيسنجر ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الناعمة، وقد تمخض عنها إبرام اتفاقية صلح بين مصر وإسرائيل ١٩٧٩، وما نجم عنها من انقسام العرب، الذين اكتفوا بإبراء ذمتهم من خلال دعم مالي كبير لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحال رئيس المنظمة إلى أن يتقمص دور رئيس دولة كاملة السيادة.
اليوم وبعد مرور ستة وسبعين عاما على مأساة الفلسطينيين لم يستطع حكامنا أن يوحدوا كلمتهم، ولا أن يتخذوا موقفا مسؤولا يسألون فيه أمام الله وأمام التاريخ، حتى أن أشلاء الأطفال والنساء التي نشاهدها على مدار ما يقرب من عام، وقد وصل عدد الشهداء إلى أكثر من أربعين ألف شهيد، وضعفهم من العجزة والمشوهين، حتى كل هذه المآسي لم تحرك شيئا في ضمائرنا، بل راح البعض من قادتنا يواصلون دعم علاقاتهم مع إسرائيل، وقد صُدمت حينما شاهدت على أحد القنوات الفضائية ما كانت تقدمه إحدى المذيعات من برنامج، تسأل فيه بعض من حاورتهم، وكان السؤال صادما: هل الخطر على العرب من إسرائيل أكثر أو من الإيرانيين؟ وكانت بعض الإجابات فاجعة! فقد قال البعض بأن الخطر من إسرائيل هو وهمٌ بينما الخطر الحقيقي من إيران، فإسرائيل يمكن التعامل معها بينما إيران تخترق بلادنا وتغير هويتنا، لا أجد تعليقا على هذه الإجابات، ولكن يمكن العودة إلى سياسة نتانياهو وحكومته، وقد راهنوا على إبادة الفلسطينيين وإخراجهم من أرضهم، ولم يلتفت البعض إلى مشروع إسرائيل الكبرى.. لله الأمر من قبل ومن بعد، وحتى كتابة هذا المقال فلا يزال الفلسطينيون يستشهدون وهم متمسكون بأرضهم، وما تزال المفاوضات تجري بقيادة العدو الحقيقي وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري