حوارات الفلاسفة ما بين الغزالي وابن رشد
اختار الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود (١٩٠٥-١٩٩٣)، أن يقيم حوارا فلسفيا في بعض القضايا التي قال بها الأقدمون، من خلال أعمال فكرية قال بها ابن رشد (١١٢٦-١١٩٨)، (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، و(الكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الملّة) و(تهافت التهافت)، وهي القضايا الفكرية والفلسفية التي عبرت عن فكر ابن رشد ورؤيته الخاصة، وهي قضايا اختارها زكي نجيب محمود بعناية فائقة في محاولة للغوص في فكر ابن رشد ومحاولة إجراء حوار فكري عميق مع غيره من الفلاسفة، وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي (١٠٥٨-١١١١)، وخصوصا بشأن القضايا التي أثارت اهتمام المتحدثين والفلاسفة، وهي قضايا فكرية وفلسفية انقسم المفكرون بشأنها، وقد رأى زكي نجيب محمود أنها القضايا ذاتها التي لا تزال موضع التباس في الثقافة العربية والإسلامية.
لقد اعتقد ابن رشد أنه أزال ما التبس علي الناس من تباين ما بين الشريعة والحكمة، مؤكدا تطابقهما وأن من يقول بغير ذلك ليس عالما لا بالحكمة ولا بالشريعة، وقد راح زكي نجيب محمود يقيم حوارا فلسفيا مفندا ما قال به ابن رشد، معتبرا انه ابتعد كثيرا عن القضية وبالغ كثيرا في إعمال المنهج، بينما أن الشريعة تؤكَّد بالشريعة، وأن نقده للمتكلمين في الفلسفة بحجة أنهم استخدموا الأدلة الجدلية ولم يعتمدوا على الأدلة البرهانية، وهو رأي عارضه زكي نجيب محمود، الذي قال بالتشابه الواضح في بنية الفكر العربي خلال القرنين الحادي عشر والثاني الميلاديين، وصولا إلى القرن التاسع عشر والعشرين، مؤكدا على أن كليهما متفق على أن الشريعة الإسلامية هي الأساس في بنية الفكر العربي، بعدها وفد فكر آخر من خارج الحدود معتمدا على الفلسفة اليونانية التي هاجمها البعض باعتبارها كلام يهدد الفكر الأصيل.
يتساءل ابن رشد في كتابه (فصل المقال): هل الفلسفة والمنطق من القضايا التي يُباح تناولها؟ ولم يجد مانعا من ذلك قائلا بأنها قضايا تستوجب النظر في طبيعة الموجودات، وهي من الأدلة القاطعة على قدرة الصانع، وأن ذلك من قبيل استنباط المجهول من المعلوم، وهو ما يقضي بضرورة إعمال العقل، الذي يعد ضرورة شرعية، وأن كل ما قال به الأقدمون من قبلنا يستجوب الأخذ منه، سواء من المسلمين أو من غيرهم، وهكذا قال ابن رشد بضرورة الأخذ بفلسفة اليونان، ولم يكتف بذلك بل اعتبر ذلك ضرورة وواجبا شرعيا، شريطة أن تكون الشريعة لها الأسبقية على الفلسفة، بحكم أن أحكامها من المسلمات الأولى، ولما كانت الفلسفة تأبى المسلمات بحكم طبيعتها الفكرية، وهو ما أحذه زكي نجيب محمود على ابن رشد، الذي قال: إن الرجل كان يمالئ العامة خوفا من أن يتهموه في عقيدته، وهي التهمة ذاتها التي قالها ابن رشد عن أبي حامد الغزالي، حينما قال عنه (هو أشعري مع الأشاعرة وصوفي مع المتصوفة وفيلسوف مع الفلاسفة)، بل زاد على ذلك قائلا: إن ما كتبه أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير (تهافت التهافت) يعد مجاراة للعامة، وإن كبوة الغزالي قد ازدادت حينما كتب كتابه (تهافت الفلاسفة)، وأن كل ما كتبه كان يجاري فيه مشاعر العامة والدهماء.
يشتبك زكي نجيب محمود مع ابن رشد حينما يقول: ما الذي يضمن عدم تعارض الحكمة مع الفلسفة؟ أن ما يقول به ابن رشد يعد قولا لا يقول به إلا المؤمنون، فإذا كانت الشريعة حقا والحكمة حقا، ولما كان الحق لا يتعدد كانت الشريعة والحكمة بمثابة قضية واحدة، وإن اختلفتا في طرق التعبير عنهما، وهذه عبارة ابن رشد الذي أكد على أن الفلسفة لا تخالف الشريعة أبدا لأن الحق لا يتعارض مع الحق بل يؤكده ويشهد له، وأن من يقول بعكس ذلك لا يفهم النص الذي قرأه في أي مصدر.
يرى زكي نجيب محمود بضرورة أن تستقل الفلسفة بذاتها، حتى لو تعارضت النصوص مع الشريعة، بينما يقول ابن رشد أن الشريعة قضية مسلمة من المسلمات الأولى، فإذا تعارضت النصوص مع الشريعة نلجأ حينئذ إلى التأويل، اعتمادا على المقاصد التي تخدم الشريعة، ويتساءل ابن رشد: كيف يجرؤ أبو حامد الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) بالقول بتكفير المسلمين كأبي نصر الفارابي وابن سينا، وقد قالا بضرورة التأويل خدمة للشريعة، حينما يتعارض النص مع الشرع. يرى ابن رشد أن الإفادة مما كتبه فلاسفة اليونان القدامى يعد واجبا شرعيا، وهو قول عارضه الغزالي واحتدم الصراع الفكري بين ابن رشد والغزالي وخصوصا فيما كتبه الأول (تهافت التهافت) وما قال به الآخر (تهافت الفلاسفة)، وهي سجالات فكرية لعلها كانت بين حضارتين، ورغم قدم هذه الحضارات إلا أن السؤال الذي ظل مطروحا دائما وحتى التاريخ المعاصر. هل تأخذ الحضارة اللاحقة عن الحضارات السابقة؟ وماذا لو كانت الحضارتان من مصدرين متعارضين؟ وهل يعد الأخذ من أحدهما محو للحضارة الأخرى؟
لم تكن الحضارة الأوروبية تجد حرجا من الإفادة مما سبقها أو لحق بها من حضارة أخرى، بحكم إن جذور الحضارات الأوروبية كانت واحدة، أو أن تأخذ الحضارة الإسلامية فكرها وفلسفاتها من أصول يونانية. من هنا يبدو السؤال مهما للغاية، وهو سؤال يتراوح بين منتصريه ومعارضيه، وقد زاد الأمر التباسا حينما رآه البعض منا غزوا ثقافيا وفكريا. وهكذا كان الحوار دائما بين ابن رشد وأبي حامد الغزالي بمثابة إثارة لقضايا معقدة، وقد هاجم الغزالي كل الفلسفات الوافدة، التي تأثر بها ابن رشد وابن سينا والفارابي، بينما ابن رشد لم يجد حرجا من الأخذ من فلسفة اليونان، وهو لا يرى في ذلك خطرا على الإسلام عقيدة وشريعة.
جرت هذه الحوارات عبر فضاءات افتراضية، فقد عاش أبو حامد الغزالي في القرن الحادي عشر، بينما كان ابن رشد في القرن الثاني عشر، والفارابي وابن سينا عاشا في القرن العاشر الميلادي، ورغم ذلك فإن ما قال به هؤلاء الفلاسفة قد بقي حتى يومنا قائما بين المثقفين، وبقيت الأسئلة ذاتها مطروحة من قبيل: هل نأخذ مما قال به اليونان، وما أضاف إليه علماء الغرب من شروح ودراسات أم ننكفئ على ذواتنا، وعلى ما خلفته الحضارة الإسلامية دون النظر لفكر الآخرين؟ وهو السؤال نفسه الذي لا يزال معلقا في رقابنا وعقولنا إلى اليوم.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).