حنظلة الطفل الذي ظل في العاشرة وآخرون

28 نوفمبر 2023
28 نوفمبر 2023

شالوم.. شالوم في الطائرة التي تقلع من مطار بانكوك إلى سنغافورة تعمدت المرأة العجوز في الكرسي القابع خلفي أن توجه الحديث لشريكها حين رأتني أتلحف بالكوفية، قالتها وأنا ألمح بطرف عيني طائرتين إسرائيليتين على أرض المطار هناك. لننسى المدلولات التي سردتها قوى التخاطب الجسدي في التعابير والنظرات والتجاهل والتحدي وغيرها في هالة السياق المحيط بهذه المواجهة الصغيرة؛ لأنها كانت اللغة في معناها المباشر وغير المباشر -وفق الوصف الذي أشار إليه تزفيتان تودوروف في كتابه الرمزية والتأويل- في مفردة تعتمد على افتراض قابليتها للفهم لدى العرب. كانت في محاولة تصد لاستطراد الدلالات المنبثقة من عروق الزيتون ولحاف المقاتلين ولثامهم. إذا كانت الرمزية في بعض حالاتها تشير إلى تجانس الرمز مع ما يخبر عنه أو أن يجسد معنى يدلل عليه فإن الخيال واللاشعور العربي حاليا كما أتوقع يحيل هذه الكلمة (شالوم) من حيز دلالتها الحالي لدلالات جديدة فإنها في وعي المتلقي العربي لا تتجاوز كونها كلمة عبرية تدلل على الكذب والظلم بهذا أصبح الرمز (هذا الرمز اللغوي) الذي يفترض أن يدلل على السلام كما يدعي الناطقون بالعبرية (وإن كانت هناك أقوال تفكك من الأساس ارتباط هذه العلامة اللغوية بالرمز الذي أريد لها في أصلها) يستدعي معنى مقابلا ضديا بالكامل لدى المخاطب الآخر وانحصر في معناه المحدود (السلام والتحية) لدى مجموعة بشرية محددة. إذ إن هذا الملفوظ في الذاكرة الجمعية للمتلقي العربي خالف فهما ثقافيا حين تضارب المعنى مع ما يحدث.

شالوم هنا في هذا السياق بين طرفي اتصال في حالة معينة تستدعى قومية مصطنعة بينما الكوفية التي يقال إنها كانت لباس الفلاحين الفلسطينيين وتنسب إلى الكوفة في العراق ويقال إنها تعود إلى فترات بعيدة جدا قبل الإسلام عبرت الحدود الجغرافية والثقافية وباتت رمزا للنضال وشكلا من أشكال الموضة الدالة. من الواضح أن قطعة اللباس هذه التي كانت تتماشى بأناقة مع باقي مكونات اللبس أثارت لدى المتلقي الآخر معاني تتجاوز بكثير قواعد الموضة والتأنق. وأن تأويلها في مفهومه الخاص استدعى استحضارا جوز له أن يقوم مجازا بمحاولة إثبات الذات وكانت دلالة المنطوق في مواجهة لدلالة الشيء. لكن هذا الشيء يحيل ضمنيا لمشاهد لا تحصى على شاشات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي استطاع رغم شيئيته مقابل المجرد البحت (اللغة) أن يخلق علاقة رمزية مع الجماهير وإن كان التعالق معه ومدى تأثيره محكوم بالعلاقة الشخصية لكل متلق مع الحدث الذي يدلل عليه. الكوفية على غير ما توقعت لفتت انتباه الكثيرين، على غير ما توقعت؛ لأنها أصبحت أمرا معتادا لدينا، جزء من يومياتنا، لكنها خارج ذلك المحيط الاعتيادي كانت أشبه بـ (اللينك) الوصلة التي تفتح المشهد على مصراعيه لدى البعض لأصوات وصور وشعارات وتعليقات تتعلق بقضية واحدة: غزة/ فلسطين.

تاريخيا هناك العديد من الرموز الثقافية والمؤسسية وحتى على مستوى الشخوص ارتبطت بالقضية الفلسطينية، ربما أشير إلى حنظلة كواحد من الرموز الفنية التي دللت على المقاومة بشكل مركب فالشخصية في الرسم الكريكاتيري هي في أصلها علامة تدلل على النضال والصمود وفي استشهاد الفنان ناجي العلي صاحب الشخصية في عملية اغتيال تكثيف لهذه الرمزية.

الأحداث الأخيرة في غزة عززت هذا الشكل المركب لمثل هذه النماذج التي أوجدت تفاعلا مكثفا متشابكا ومستطردا؛ لأنها كذلك تضج بالرمزيات التي يحيل بعضها إلى معان إنسانية تجد قبولا لدى الآخر بعيدا عن محيطنا الثقافي، وفي آن كذلك هي أضفت في وقت قياسي إلى خيال المتلقي العربي كما يسير من الأيقونات ذات المضامين الشعرية والأسطورية في زمن خفتت فيه تلك السحرية والعاطفية للدلالات الرمزية.

كان لمواقع التواصل الاجتماعي كوسيط للنشر في ظل ظرف إنساني، حدث عميق متقد تتناسل منه هذه الرمزيات دور كبير في جعل الدلالات التي تفيض عنها غنية بمعاني السمو والنبل وتشتبك مع مفاهيم الحق والعدالة والصمود والشجاعة.

في أبسط مثال يتحول البطيخ الذي هو في شكله الواقعي بعيد كل البعد عن مسائل الحروب والقتال إلى رمز مقاومة لدلالته على العلم الفلسطيني وتخرج صورة شريحة الفاكهة هذه من حيز دلالة الطعام وحتى التفكه في بعض السياقات وترتقي لتكون علامة صمود. حالة من حالات التحايل والثبات في وجه الإقصاء. يتعدى الأمر وجود عدد من الأشكال البصرية إلى المسموع، وفي مثال على ذلك نجد أن أغاني شعبية قديمة تعرف بالترويدة أو المولالاة بإيقاعها الفلكلوري الشعبي المعروف الذي ربما يتشابه مع أغنيات شعبية عديدة في البلدان العربية تستحضر من سياقها التاريخي النضالي القديم ليعاد تقديمها في مشاهد مختلفة لتقوم بتلك المهمة الجليلة في استمرار النضال ووصل الحدث. حفظ الذاكرة. التأكيد على اتصالية النسق النضالي، إضافة إلى أنها تأتي بإنشاد النساء الفلسطينيات لتحقق أثرا على مستويين هنا: الاحتفاء باللغة وحفظها ليس كإرث ثقافي فقط وإنما كذلك كمكون من مكونات المقاومة فالأغنية في ذاتها كانت سلاحا بتشفير الرسائل للأسرى والمقاتلين والأثر الآخر باستحضار صورة المرأة وفي الإرث الثقافي العربي هي محرك محفز ومشارك فعلي في الحروب. المرأة دلالة الوجود والبقاء والعرض والنسل هي والأرض تتحدان في المعنى. يضفي الاشتغال البصري الذي تتيحه إمكانيات البث في مواقع التواصل الاجتماعي طابعا ملحميا يتلقى بلهفة خصوصا في خضم هذه الأحداث التي تعج بمشاهد الصبر والبطولات.

النشر الإعلامي سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو في وسائل الإعلام الأخرى يتملك القدرة على أن يخبر عن هذه الرمزيات بالنقل والإنتاج أيضا. فما كانت تقوم به الحكاية المروية سابقا من نشر الرموز ونقلها من بيئات وثقافات وقصص بعيدة وما تقوم به اللوحة الفنية والأغنية يعاد بثه وربما دمجه لتتخلق منه رموز أثرها يتعمق ويتسع في الانتشار بسرعة هائلة وفي لحظة نجد أن هذا الرمز أصبح له متلق عالمي. هذا الدور الثقافي (مقصودا كان أم عرضيا) للإعلام لم ينشأ فقط مع حالة الصراع هذه، هو دور أصيل طالما ارتبط به، والإعلام معني بإنتاج الرموز ونشرها سواء كانت رموزا سياسية أو ثقافية.

الملاحظة التي يمكن إضافتها هنا هو زخم الرمزيات وتنوع تشكلها عبر الوسائط المختلفة. هو تحول دلالات بعض الرموز. هو هذا الصراع الرمزي الذي أصبحت وسائل الإعلام وسطا لحدوثه وتعالي إيقاعه.

من الحالات اللافتة في تشكل الرموز في الحرب الدائرة الآن هو وجود هذا العدد الهائل من الرموز (الشخوص) في وقت قصير سواء كانوا رموزا مجهولي الهوية أو رموزا معروفين بالاسم فهم وسوم أبطال. لعل الشخص الرمز الأبرز في ما يدور من أحداث هو أبو عبيدة بلثامه وإصبعه المرفوعة توحيدا ودفاعا في وجه الظلم كما تدلل عليه خطاباته المجلجلة التي تنتهي كل مرة بالشعار المعروف «نصر أو استشهاد». تمكن أبو عبيدة من أن يسكن العقل العربي ويصل إلى عقول الصغار والشباب التي طالما اتهمت أنها لا تعنى ولا تكترث أو لا تفهم حقا البطولات الإسلامية من مثل بطولات خالد بن الوليد وصلاح الدين وغيرهم.

إن سرد تاريخ هذه البطولات لم يكن كافيا أو في الغالب لم يقدم بشكل يتربى عليه النشء. لكن يمكن القول إن أبا عبيدة بشكله وقضيته التي يدافع عنها جلبهم جميعهم معه، كل الأبطال القدماء دفعة واحدة في شخصه.

يلاحظ هنا الفرق في التأثير بين ما تستدعيه بطولات شخوص تاريخية يحكى عنها في حين لا يوجد ما يشبهها في الواقع، إذ تبقى معلقة كفكرة حالمة وبين الرمزية التي تجسدها شخصية حاضرة يتعايش معها الشباب يعيشون خطاباتها وبطولاتها والحدث الذي تتحرك في مساره بكل جلاله وتجلياته وفجاعيته.

ثم تأتي غزة التي تتحول بمجملها إلى رمز ليس فقط للقضية الفلسطينية هي رمز يستدعي في ذهن كل جماعة بشرية مدلولات بعينها، فلدى الأفارقة والأقليات هي رمز للصمود في وجه العنصرية، ولدى الهنود الحمر هي رمز للصمود في وجه الإبادات العرقية، ولدى المستعمَرين والثوريين هي رمز النضال ضد الاستعمار ولدى المجاميع البشرية التي تعاطفت معها هي رمز للإنسانية في وجه الظلم والتسلط وهيمنة الأغنياء وأصحاب النفوذ، ولدى الشعوب العربية هي رمز الكرامة ورمز المواجهة، ليس في وجه الإسرائيليين فقط وإنما في وجه تاريخ وحاضر من الكبت والظلم.

وفق نظرية التفاعلية الرمزية فإن تصرفاتنا كأفراد تجاه أشخاص وموضوعات تبنى على الانطباع الذي تتركه فينا. يبني الإعلام رموزا وقيما إنسانية مشتركة ونحن من خلال تفاعلنا معها ومع آخرين حولها -هذا التفاعل الذي تضاعف في عصر مواقع التواصل الاجتماعي- نحدد كيفية التعاطي مع تلك المفاهيم التي تتعلق بها. إذن هذه الرموز تنبثق عنها معارف ومشاعر وقيم تشكل وعينا بشكل ما بشكل فردي خاص يخلق أنماطا مجتمعية.

في الحدث الحالي يعمق الإعلام هذه الرمزية في كل ما يبثه من تقارير ومقابلات وحوارات وتحليلات وتخرج غزة من كونها قصة خبرية لهذا المعنى الأسطوري الذي يتشكل في أذهان العديد من المتابعين. يتأصل هذا التفاعل في أذهان البعض للحد الذي يؤثر فيه على تشكيل وعيهم وهوياتهم. وكلما طال زمن هذا التفاعل كلما تعمق أثره. قد يكون في بعض الحالات عابرا ومؤقتا ومحددا بزمن الحدث ولكنه في حالات أخرى قد يترك أثرا عميقا وبعيد الأمد. الوقت ومزيد من البحث وحده كفيل بأن نفهم ماذا فعلت بنا فعلا غزة ورموزها.