حق المهاجرين في إعادة بناء «منطق الدولة»
أكثر من ألف شخص شاركوا في مظاهرة بهامبورغ ترافقت مع زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس للمدينة السبت الماضي. رُفعت في هذه المظاهرة التي نظمتها Muslim Interaktiv (يُمكن أن تُترجم لـ: التفاعل الإسلامي) لافتة «الخلافة هي الحل (Kalifat ist die Lösung)»، والتي كما لنا أن نتخيل أججت جدلا واسعا. حسب tagesschau، أوصى رئيس شرطة هامبورغ بحظر الجماعة الإسلاموية، إذا ما توفر الأساس الدستوري الكافي. يخشى رئيس الشرطة أن ردكلة المسلمين صارت وشيكة. علما أن حركة الخلافة ممنوعة عن ممارسة نشاطها منذ 2003، لكن نشاطها على الإنترنت لم يتوقف، بل ونشط مع حرب الإبادة على غزة.
ثمة لافتات أخرى لا يبدو أن كُتّاب التقارير الإخبارية سُعدوا بها. مثل «منطق الدولة يَقتُل (Staatsräson tötet) في إشارة إلى كون اعتناق ألمانيا لمبدأ دعم إسرائيل غير المشروط -والذي يأتي تكفيرا عن أفعالها الوحشية خلال الحرب العالمية- يقتل الآلاف في غزة. هذه اللافتة التي تصف ما يحدث ببلاغة، لم تعجب لا البوليس ولا الصحافة الألمانية.
مثل هذه الأخبار تُحفز مشاعر متضاربة لدي بصفتي إنسانة تصنف نفسها ضمن طيف اليسار. أي مُعادية لكل أشكال الاستعمار (فما بالك بالاستعمار الاستيطاني لإسرائيل، وجرائمها التي لا حصر لها)، كما تُعادي -بالقدر نفسه- الدول التي تُشرّع وتحكم استنادا للدين (مثل دولة الخلافة).
لهذا أحاول اليوم أن أتأمل وأُفكر لماذا تستفزنا تقارير مثل هذه في سياق الحرب على غزة.
أولا، تجاهلت الصحف اللافتات المطالِبة بإنهاء الإبادة في غزة، أو الهتافات الداعية لوقف التمويل الألماني العسكري لإسرائيل، أي المحرك الأساسي لنزول المتظاهرين إلى الشارع، وسلطت الضوء بدلا من ذلك على اللافتات المستفزة، في تعمد للتحريض والتخويف من المظاهرات التي ينظمها المسلمون. فلم ينس تقرير الـ tagesschau أن يذكر أن حركة الخلافة تعد الديمقراطية منافية لمبادئها، لتأكيد مدى تهديد مثل هذه المظاهرات على النظام القائم.
ما لا أغفل عنه أن التطرف موجود، أن «الإسلاموية» يغلب عليها التطرف، وأنا لا أُدافع عن مطالب من قبيل إقامة دولة خلافة أو الحكم بالشريعة، ولكني أرى أن مثل هذه الحوادث -وجود لافتة من هذا النوع- تُستثمر لتتفيه مشروعية المبادرات التضامنية مع القضية الفلسطينية.
ألوم بالقدر نفسه الإسلامويين الذين يحاولون الركوب خلف الحشود -التي يُحركها دافع وحيد: إنهاء الإبادة- لتمرير أجندتهم الخاصة، في نوع من الأنانية الدنيئة، مجازفين بتقليص أعداد النازلين إلى الشوارع.
ثانيا، دعونا نُفكر في من يرفعون هذه اللافتات. ثمة شعور بالخيبة من الموقف الألماني الرسمي، هؤلاء المهاجرون يعيشون على أرض يدعم نظامها الإبادة بشكل مباشر ماديا ومعنويا، أناس يشعرون أنهم محاربون بسبب عرقهم ودينهم، من الطبيعي أن يدفعهم هذا لردة فعل عكسية. أي لأن يرتدوا لمجموعاتهم الصغرى، ويُحاولوا اختراع نظام أكثر عدالة تجاههم، لطالما أنتجت ممارسات الدولة، واتجاهاتها مثل ردود الفعل الارتجاعية هذه. يميل العرب والمسلمون في أوروبا لعزل أنفسهم لأنهم يشعرون أن جهد الاندماج يقع عليهم وحدهم، عليهم هم أن يمتثلوا للشكل الموجود، دون أن يكون لهم حق في التفاوض بشأنه، وكأن مواطنتهم غير كاملة، أي أنها لا تُساهم بأي طريقة في إعادة التفكير بـ «منطق دولة» جديد، يتماشى مع اتجاهات اللاجئين والمهاجرين (ما هي هذه الديمقراطية التي أتعبتنا؟) خصوصا أن نسبة المواطنين المسلمين اليوم تتفوق على اليهود - إذا ما أردنا وضع القضية الفلسطينية في السياق الديني والإثني الذي نُجبر على تبنيه، رغم أنه لا يجب أن يمت للقضية بصلة.
ثالثا، وبالحديث عن التطرف.. تنشط اليوم الحركات المتطرفة المسيحية، واليهودية، فلماذا يُعامل التطرف الإسلامي وكأنه فريد، بينما ينتمي في الواقع لظاهرة أشمل من التشدد الديني الحاضرة بقوة في جميع أنحاء أوروبا والعالم.
رابعا، لا يتوافق الفعل مع العقوبة المقترحة. إذ طالب الحزب الديمقراطي الحر بطرد المشاركين في المظاهرة. وكأن الحادث يُنتهز لتبرير المعاملة غير العادلة للمهاجرين، ويُستغل لترحيلهم. لكن التطرف لا يتعلق غالبا بالمهاجرين الجدد، بل بالجيل الثاني والثالث من المهاجرين الذين يختارون الانعزال كنتيجة لفشل الدولة في إدماجهم، ولغياب شعورهم بالقبول والانتماء. الأمر الذي يسهل لاحقا استغلاله من أجل تجنيدهم من قِبل الحركات المتطرفة. القضية إذا ليست كما تُصور غالبا، فحتى لو تبنت ألمانيا أكثر الحلول عنفا ورحلّت المهاجرين، فهي لن تنجح في استئصال التطرف من البلاد.
أخيرا، لابد من الإشارة إلى الآتي: وسط البروباغندا والآلاعيب السياسية التي تتفوق بها إسرائيل، كيف لا يخطر بالبال أن مشاركين بعينهم ينخرطون بهدف إثبات أن الفلسطينيين والمناصرين لقضيتهم هم تهديد لوجود «العالم المتحضر». لماذا يُستبعد تماما هذا الاحتمال، ويُقفز لاستنتاجات عنصرية فورية؟
تقارير كهذه تُذكي العاطفة المعادية للمهاجرين، الإسلامو- والعربو-فوبيا. ولا أفترض فيها البراءة إطلاقا. هي ترقى لأن تكون تحريضا عنصريا. بل وأننا نعود خطوات إلى الخلف. فالعنصرية التي كانت خفية وضمنية، صار يُصرح بها دون حرج.