حرب بوتين إذ تعيد التذكير بسياسة القيم!
هل يمكن القول إن الغرب اليوم استفاق على ما تم تصويره في أدبيات إعلامه بصدمة غزو بوتين لأوكرانيا في صبيحة 24 فبراير الماضي؟ بحيث بدا ذلك الإعلام الغربي كما لو أنه تفاجأ بتلك الصدمة التي جعلت لأول مرة، بعد الحرب العالمية الثانية، إمكانيةً لرؤية جيش دولة أجنبية يستبيح سيادة دولة جارة داخل أوروبا!
هذا المشهد، أوروبيا، لم يكن متاحا (سوى ذلك الاستثناء الذي اعتبرته أوروبا حربا أهلية داخلية نجمت عن تفكك يوغسلافيا خلال تسعينيات القرن المضي) لكن يمكن القول إن تلك المفاجأة التي ترسم اليوم تعابير الدهشة على وجوه القادة الأوروبيين، ليست بمفاجأة حقيقية إذا ما أدركنا الطبيعة البراغماتية التي أدمج بها الغرب اقتصاد روسيا في منظومته الرأسمالية بعد نهاية الحرب الباردة، دون التقيد بسياسة القيم الثقافية والأخلاقية التي تأسست عليها نظمه الديمقراطية.
فهل يمكننا، مثلاً، اعتبار التعامل البراغماتي الذي يعتمد تغليب المنفعة الرخيصة مسوغا لعدم التقيد بسياسة القيم؟ وإذا بدا ذلك ممكنا طوال سنوات الحرب الباردة التي جعلت أوروبا مستفيدةً من الغاز الروسي كغنيمة رخيصة صرفتها عن التقيد بسياسة القيم، فهل يمكن للعقل السياسي الاستراتيجي للغرب أن يكون غير منتبه إلى المفاجآت الخطيرة التي قد تنطوي على مغامرات غير متوقعة، على المدى البعيد، نتيجة لإدماج روسيا التوتاليتارية في نظام رأسمالي استفاد من الربح المادي وأهدر سياسة القيم الثقافية لليبرالية الغربية؟ سنجد، متى ما تأملنا في نتائج الحرب العالمية الثانية والقوى التي صعدت بعد تلك الحرب خلال سنوات الحرب الباردة، أن مشكلة التوتاليتارية في الجوار الأوروبي (روسيا) ستظل شبحا يهدد سماء أوروبا على المدى البعيد، بالرغم من أن الفرص التي بدت لذلك الغرب بعد سنوات الحرب الباردة كان يمكن استثمارها عبر ضغوط استراتيجية لترويض تلك الدكتاتورية بتجاه الإدماج في منظومة الديمقراطية، وكان نتيجة تفويت هذه الفرصة؛ أنه تم إدماج روسيا في منظومة السياسة الرأسمالية البراغماتية للغرب دون أي إدماج في سياسة القيم الثقافية التي تحكم ذلك الغرب.
هذا ما يمكننا أن ندركه اليوم تماما في اعتماد أوروبا على نحوٍ لا فكاك منه - مؤقتا على الأقل - عن إمدادات الطاقة الروسية الرخيصة (النفط والغاز) وبالتالي علينا أن نتصور طبيعة الضغوط التي يمكن أن تشل يد أوروبا عن الدفاع عن أوكرانيا بالطريقة التي تكون أكثر فعالية.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة حذرت أوروبا، من قبل، من خطورة الاعتماد على دولة كروسيا لا تتشارك القيم الثقافية للسياسة والأخلاق مع الغرب، والآثار الاستراتيجية الخطيرة التي يمكن أن تترتب على ذلك في المستقبل؛ فها نحن نرى اليوم عواقب ذلك التجاوز البراغماتي للمصالح الاستراتيجية، طويلة المدى، على الأمن والديمقراطية في أوروبا.
إن أهمية سياسة القيم تكمن في أن جوهرها غير قابل للتجزئة، فقد رأت كل من أوروبا والولايات المتحدة أفعال بوتين في «غروزني» وكذلك في «جورجيا» و«القرم» وصولا إلى سوريا دون أن تحرك ساكنا أو تعيد رسم سياساتها الاستراتيجية التي من شأنها أن تتوقى ردود الفعل السلبية الخطيرة لسياسات بوتينية مماثلة في أوروبا، وهذا ما حدث في يوم 24 فبراير بالغزو البوتيني لأوكرانيا.
واليوم؛ إذ تبدو تداعيات الغزو البوتيني لأوكرانيا مهددةً بحرب عالمية ثالثة فلأن ذلك بالأساس يعود إلى انفصال في تقديرات الغرب الاستراتيجية بين سياسة المصلحة وسياسة القيم حيال ما يقع في العالم من أزمات سياسية وحروب، ما يعني أن الحدود التي يضعها الغرب بمزاج فيه ترجيح خاص للمصلحة حيال الأحداث التي تحتاج لميزان واحد في سياسة القيم ستبدو اليوم بعد الغزو البوتيني لأوكرانيا في مرحلة أفول، وبهذا المعنى فإن هناك حاجة للعودة إلى سياسة القيم بنظم إدراك ذات سوية واحدة في معالجة قضايا القانون الدولي والأزمات السياسية المتصلة به، وربما لهذه الناحية ستكون هناك حاجة إلى نظام جديد لتفعيل سياسات القيم بسوية واحدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: إذا كان النسق المادي الذي صممته الحداثة السياسية لفكرة المصلحة القائمة على حقوق الدول الوطنية، نسقا غير متجاوز لأي قيمة عامة للمصالح العقلانية العليا التي يقتضيها مطلق العدل الإنساني؛ كيف سيتم تجاوز هذا النسق؟.
محمد جميل أحمد كاتب من السودان