حرب أوكرانيا تخلق طريق حرير جديدا

27 مايو 2023
27 مايو 2023

ترجمة: أحمد شافعي -

وسط هيلمان ومهرجان موكب يوم النصر في موسكو في التاسع من مايو لإحياء ذكرى الانتصار السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، لم يكن حضور رؤساء بعض الجمهوريات السوفييتية السابقة من منطقة آسيا الوسطى يتعلق فقط بتضحيات الماضي المشتركة، ولا هو كان يتعلق بحاجة فلاديمير بوتين الماسّة إلى كسر العزلة غير المسبوقة التي هوى بروسيا إليها. فقد كان ذلك الحضور يتعلق أيضا بالجغرافيا الاقتصادية.

في السنة التالية لبدء الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022، تزايد حجم الشحن في الممر الأوسط إلى أكثر من الضعف، والممر الأوسط -Middle Corridor- شبكة نقل تربط آسيا بأوروبا من خلال السكك الحديدية والسفن والطرق السريعة. في مارس، كشف وزير الخارجية أنطوني بلينكن النقاب عن نهج جديد تتبعه الولايات المتحدة تجاه آسيا الوسطى يركز على تيسير الممر الأوسط الذي لا يمر بروسيا. وهذا الطريق يبطل قدرة روسيا على ابتزاز جيرانها بما لديها من بنية أساسية في النقل، فضلا عنه أنه توسيع لشريان اقتصادي مستقل إلى دول وسط آسيا بل والصين.

في أبريل، اقترحت أذربيجان وكازاخستان -وهما دولتان لا غنى عنهما في الممر الأوسط- توسيع الممر الاستراتيجي. والحق أن الربط بين وسط وشرق آسيا وأوروبا بشبكة تجارية برية هائلة أمر يستولي على خيال التجار والحكام منذ حققت الإمبراطورية المنغولية كامل سلطانها في القرن الثالث عشر. ولكن اليوم، نرى أن مبادرة الحزام والطريق الصينية المعلنة في 2013، رابطة بين الشرق والغرب، باتت معرّضة للخطر بسبب العدوان الروسي على أوكرانيا.

يقوم الممر الأوسط على أساس منطقي هو أن تنتهي روسيا إلى هزيمة واضحة. ذلك أن من شأن الطريق متعدد الوسائط أن يربط الغرب بالشرق من خلال تركيا (أو ممر البحر الأسود) والموانئ الجورجية، وأذربيجان، مرورا ببحر قزوين إلى وسط آسيا وما ورائها.

وما كان لامرئ وهو ينظر إلى موكب موسكو أن يعرف أن هذا التحول الجيواقتصادي جار الآن. فقادة آسيا الوسطى المشاركون للرئيس بوتين على مضض في مسرح واحد يعملون في الوقت نفسه مع بكين وبروكسل من أجل عزل موسكو من خلال إقامة الممر الأوسط.

من المؤسف أن الاستثمار الغربي والدعم الدولي لتجاوز روسيا اقتصاديا لم يتجسد ماديا. فخلال تجربة روسيا المضطربة في الديمقراطية في تسعينيات القرن الماضي، أو حتى قبل العدوان في عام 2008 على جورجيا، كان هذا خيارا مفهوما. يستوجب الممر الأوسط إرادة سياسية، ودعما محليا، واستثمارا كبيرا متعدد الأطراف لتطوير وتوسيع البنية الأساسية وإقامة روابط عبر بحر قزوين ومرافق الموانئ الجديدة. وينبغي الإشراك الكامل للبنك الدولي، والمؤسسة المالية الدولية، وشركة تمويل التنمية، والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، وغيرها.

ولكن بعد 2008، وخاصة بعد 2022، تغيرت الحسابات السياسية. وبات تجاهل الممر الأوسط خطأ يجب أن نتجنبه.

نحن نعرف ما يجري حينما يكون بوسع روسيا أن تمارس نفوذها الاقتصادي على جيرانها ولماذا يعد الممر الأوسط بالغ الأهمية. حتى قبل استيلاء عام 2014 على القرم وحرب الدونباس، كانت أوكرانيا أيضا ضحية للسيطرة الروسية على الطاقة منذ 2007 إلى 2014. وكانت أرمينيا وأذربيجان ومولدوفا وأوزبكستان وأغلب الجمهوريات السوفييتية السابقة مرغمة بشكل مباشر على البقاء في فلك روسيا. كما عانت رومانيا والبلقان ودول البلطيق من اضطرابات في إمدادات الغاز.

تستعمل روسيا سيطرتها على النقل في تضييق الخناق على اقتصادات الجيران بعد مطالبتهم بترتيبات اقتصادية أفضل أو بممارسة سيادتهم. وتستعمل روسيا مرافق التصدير لإرغام الجيران والحلفاء. وفي غياب دعم غربي، لا يبقى أمام أولئك الجيران إلا الانسحاب أو التودد إلى الكرملين.

ولنا مثال صارخ على ذلك في كازاخستان، بمساحة تضارع أوروبا الغربية، وباحتلالها المرتبة الثانية عشرة في إمدادات النفط، وقد رفضت الاعتراف باحتلال روسيا لأراض أوكرانية وعرضت إرسال مزيد من النفط إلى الاتحاد الأوروبي.

تذرعت روسيا بـ«سوء المناخ» وقطعت مؤقتا روابط الطاقة بين كازاخستان والعالم الخارجي. وأعقب ذلك أن تساءل رئيس روسي سابق عما لو أن كازاخستان دولة بحق، وقوله إن بوسعها أن تحل مشاكل القومية الكازاخية داخل كازاخستان، ثم إنه أخيرا وجَّه التهديد أربع مرات منفصلات للسيادة الكازاخية في الثامن من مايو عبر إيجور جيركين، المعروف بإيجور ستيرلكوف، الذي قال إنه بعد أوكرانيا «ثمة معركة من أجل كازاخستان». والتزام روسيا المفرط بحربها في أوكرانيا يعني أنها لم تستخلص من هذه الحرب أي درس.

غير أن روسيا سوف تواجه جيرة ذات ثقل كبير. فالصين -أي مبادرة الحزام والطريق- مهتمة بالمشروع. وبرغم إعلان «الصداقة بلا حدود» في فبراير من عام 2022 وما تلاه من لقاء بين «صديقين حميمين» هما شي جين بنج وفلاديمير بوتين في مارس الماضي، تبقى الصين عازفة عن مساعدة روسيا بشكل مباشر. فبسبب التخوف من عقوبات ثانوية وبسبب الضيق من انعدام كفاءة الروس، وبسبب دعم موسكو اقتصاديا للهند، صوتت الصين ضد روسيا في الأمم المتحدة، وألغت بعض التعاون مع روسيا في مجال الطاقة، ورفضت إرسال معدات عسكرية تحتاج إليها روسيا احتياجا ماسا، وهذا ما يصعب وصفه بالصداقة «بلا حدود».

تتهيأ الصين للممر الأوسط نظرا لثلاثة أسباب. أولا، هي تريد أن تزيد من نفوذها في وسط آسيا على حساب الرئيس بوتين. وهي ثانيا تريد مزيدا من التبادل التجاري مع أوروبا دونما اعتماد على حسن نية روسيا أو التعرض لعقوبات ثانوية غربية. وهي ثالثا ترجو أن تزيد أوروبا اعتمادا على الصين وانشقاقا عن التحالف الغربي.

والسببان الأولان فيهما نفع واضح للغرب، نظرا لأن إضعاف روسيا عبر منافسة بين خصوم الغرب أمر مرحّب به. أما خطر أن يؤدي هذا الممر إلى انشقاق في صف التحالف الغربي فليس بالأمر الجسيم في ضوء المعارضة الأوروبية لمعانقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيرا لدب الباندا.

من شأن الممر الأوسط أن يمنع فعليا التنازل لروسيا والصين منفردتين عن الاشتراك الاقتصادي الاستراتيجي في أوراسيا. ويجب على الشركات في الولايات المتحدة أن تزيد من وجودها في وسط آسيا والقوقاز، والممر الأوسط بصفة خاصة. ومن أجل ذلك لا غنى عن دعم استراتيجي واسع من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

لم يكن الوقت أنسب قط ولا كانت الأسباب أدعى مما هما الآن لأن يتقدم الغرب بقوة إلى الممر الأوسط الذي يحدث فارقا استراتيجيا بالنسبة لأوكرانيا. فالممر الأوسط سوف يعزل روسيا، ويساعد أوكرانيا، ويحفز التنمية الاقتصادية في جزء من العالم خاضع لسيطرة روسيا والصين، ويمد الاتحاد الأوروبي والعالم بالمواد الخام اللازمة ومنها الطاقة الهيدروكربونية، واليورانيوم، والأتربة النادرة، والقمح، والأسمدة. لكن الأهم من ذلك كله أنه سيغرس بذور الخلاف بين موسكو وبكين.

آرييل كوهين زميل مخضرم غير مقيم في مركز أوراسيا التابع للمجلس الأطلنطي. وهو أيضا العضو المنتدب في المركز الدولي للضرائب والاستثمار، حيث يرأس برنامج الطاقة والنمو والأمن. وهو مؤلف كتاب «الإمبريالية الروسية: التنمية والأزمة».