حدود الشراكة والتحالف بين الخليج والغرب «لندن وواشنطن نموذجا»

14 يونيو 2023
14 يونيو 2023

من حيث المبدأ، ينبغي أن تكون طبيعة الشراكات والتحالفات التي تأسست منذ عدة عقود بين دول مجلس التعاون الخليجي والغرب في عداد التاريخ، وحلت محلها شراكات وتحالفات ندية قائمة على المصالح والمنافع المشتركة بينها، مع وجود خطوط حمراء تمنع الغرب من التدخل في الشؤون الداخلية للدول الخليجية، أما الواقع، فهو على عكس المبدأ، فالتدخلات الأمريكية والبريطانية والأوروبية عموما المباشرة وغير المباشرة تزداد عمقا واتساعا وقلقا في مرحلة خليجية داخلية مليئة بالتعقيدات والتحديات بصورة غير مسبوقة، وكذلك، فقد أصبح للدول الخليجية مصالح إقليمية ودولية قد تتباين مع وجهات نظر الغرب، فينبغي التسليم بها من قبل شركاء وحلفاء الخليج الغربيين.

هل أثار الجانب الخليجي هذه القضية في اجتماع الشراكة الخليجية الأمريكية التي عقدت على المستوى الوزاري، وكذلك في مجموعات العمل المشتركة بين الجانبين التي صاحبت هذا الاجتماع الذي عقد في الرياض مؤخرا؟ تابعنا بيان الشراكة، وكذلك بيان مجموعات العمل الخليجية الأمريكية، ولم نر فيه الجديد على القديم المعتاد، سواء من حيث القضايا التي نوقشت بين الجانبين أو لهجة البيانات، فقد جاءت قفزا فوق كل الإيجابيات التاريخية التي تحدث بين دول المنظومة الخليجية وإيران، ولم تتطور لهجة البيانات ضد طهران بحيث تعكس المناخات الإيجابية سواء بين طهران والدول الخليجية الست ـ أو بين طهران وواشنطن حيث يسود الأمل الآن أكثر من أي وقت مضى بالتوصل إلى اتفاق بشأن برنامج طهران النووي.

ونخشى أن تكون لنتائج الشراكة الخليجية الأمريكية غير المعلنة ارتدادات كذلك على الشراكة الاقتصادية بين دول المنظومة الخليجية والصين، ومهما قدمت واشنطن من ضمانات جديدة للخليج، فهي لم تعد ذات ثقة، والتاريخ القديم والحديث الشاهد على ذلك، وما حققه الخليج مع إيران والصين حتى الآن، لا يمكن التراجع عنه مهما كانت الضغوطات الأمريكية أو وعودها، والحقيقة الساطعة الآن، أن بكين شريكة اقتصادية مستقبلية مهمة للخليج، وأنها الدولة الوحيدة حصريا في العالم التي لا يمكن أن ترفض أي احتياجات خليجية، وفيما قد ترفض واشنطن تقديمه للخليج، ستوفره بكين لهم من معدات عسكرية وتقنيات وتكنولوجيا متطورة واستثمارات ضخمة، وحتى لو قدمت واشنطن التزامات في هذه المجالات في اجتماع الشراكة الخليجية الأمريكية، فلا يثق فيها، لو قدمته، فلن تقدمه إلا من منظور مصلحة طرف ثالث، وهو الكيان الصهيوني على حساب طرف إقليمي مجاور، وهو طهران.

وهذا تفكير لم يعد صالحا للخليج إقليميا ودوليا، فمن مصلحة الخليج الآن الدخول في شراكات وتحالفات مع كل القوى بما يخدم مصالحه الاستراتيجية المستقبلية بما فيها واشنطن ولندن، فلا نطالب هنا بإنهاء التحالف الخليجي معهما، لكن المطلوب إعادة تصويبه لكي يحترم الشأن الداخلي للشركاء الخليجيين بحيث تكون هناك حدود معينة وواضحة تمنعهم من الاقتراب منها سواء من حيث احترام الخيارات التنموية والسياسية الداخلية للخليج، وخصوصياتها الأيديولوجية والاجتماعية، أو شراكتها الإقليمية والدولية الجديدة، فحقبة الخمسين سنة الماضية يفترض أنها قد انتهت بانتهاء رموزها - المادي أو المعنوي - وتكون الشراكة الجديدة مبنية على الاعتداد بالوعي الاجتماعي في الخليج.

وإذا لم تدر الدول الخليجية هذه القضية ضمن محادثات تجديد شراكاتها وتحالفاتها مع الغرب بحاكمية القضايا والمناطق المحظورة عليهم، فإن الإكراهات التي ستواجهها منهم قد تهدد وحدتها الجغرافية والديموغرافية، وهنا نعني ما نقوله، وسيتضح بجلاء في مقال مقبل معنون باسم «حتى لا تتكرر تجربة الاختراقات الأجنبية في دول مجلس التعاون الخليجي» ذلك أن تطوير العلاقة التاريخية القديمة مع واشنطن ولندن قد أصبحت تمليها ماهيات المصالح الخليجية المعاصرة، والعلاقة الجديدة مع طهران، وطبيعة النظام العالمي الجديد الذي يتشكل على قاعدة الكتل الكبيرة، والأهم هنا الأوضاع الداخلية الجديدة في الدول الخليجية الناجمة عن تغيير مفهوم الدولة الرعائي، والاتجاه بفرض الضرائب والرسوم وتقليص دور الدولة في الاقتصاد وترشيد الإنفاق الاجتماعي.. الخ.

وهذه تحولات تنتج استياءات اجتماعية عامة.. ستستغل من حلفاء وشركاء الخليج القدامى لتمرير أجندات غربية معلومة بذاتها، وتحاول لندن وواشنطن وأوروبا جعلها من ضمن التعدد والتنوع الخليجي، ولن تنجح لأنها تمس ثوابت وجودية للأغلبية الخليجية، لكنها ستنجح في مقابل فشلها في دخول المجتمعات الخليجية في أتون صراعات لن تكون في صالح مستقبل مصالحها في المنطقة، وهنا نشير إلى تأسيس مشروع صراع هوية داخل المنطقة الخليجية إذا لم يمنح الخليج هذه القضية الأولوية الأولى في شراكته وتحالفاته مع الغرب، ومن مصلحة كل نظام خليجي الآن وضع لندن وواشنطن أمام الخيار الآتي: إن استمرارية شراكتهما وتحالفاتهما مرتبطة بعدم تدخلهما في شؤون الخليج الداخلية ورفع الوصايا عن خياراتهم الاستراتيجية، ودون ذلك، ستكون الأنظمة الخليجية قد رضت الغرب على حساب شعوبها، فمن هو الأولى بالرضا الغرب أم القوة الناعمة الخليجية؟

والهاجس من المساس بالشراكة الخليجية الصينية يأتي بعد أن وقع مؤخرا الرئيس الأمريكي بايدين ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك شراكة اقتصادية جديدة تهدف إلى خوض التحديات الجيوسياسية الكبيرة الراهنة، وخصوصا في مواجهة طموحات الصين، فهل سيكون الخليج جزءا من سياسة تطويق بكين؟ يملك الخليج الكثير من الوسائل التي تجعله محايدا إذا ما غلب مصالحه المستقبلية.. فستنحي إدارة بايدين للخليج كما وجدت نفسها مضطرة الآن مع لندن، حيث يبدو أنها قد قدمت للندن تنازلات جوهرية من أجل إبرام هذه الشراكة بعدما فشلت لندن منذ خروجها من بريكست عام 2021 في التوصل إلى اتفاق تجاري مع واشنطن للتقليل من حجم خسائر انسحابها من بريكست، والآن تحظى بثمن أكبر، حيث تنص بنود الشراكة التي أطلق عليها «إعلانٌ أطلسي» تعزيز التعاون في صناعة الدفاع وفي الطاقة النووية المدنية وتوريد المعادن الضرورية في الانتقال على صعيد الطاقة، وتلقى سوناك ضمانات من البيت الأبيض باستفادة الصناعيين البريطانيين من جزء من خطة الدعم الهائلة لجو بايدن التي تعطي الأولوية للصناعة الأمريكية، أما لندن، فيكفي القول اختصارا أن مصالحها في الخليج ترجع إلى مطلع القرن السابع عشر.

وستظل دول مجلس التعاون الخليجي لواشنطن ولندن ذات أهمية استراتيجية متعددة، جيوستراتيجية وأمنية واقتصادية ومالية، فهي تمتلك 54% من احتياطي النفط في العالم، و40% من احتياطي الغاز الطبيعي، كما ستصبح من الدول الأوائل المنتجة والمصدرة للهيدروجين الأخضر، علاوة على استثمارات صناديق سيادية خليجية في شركات تصنيع أمريكية ومؤسسات مالية ومشروعات عقارية على أسس ثنائية الأطراف، وقد بلغت استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في الأوراق المالية الحكومية الأمريكية مثلا أكثر من سبعة وسبعين مليار دولار، إضافة إلى استثمارات أخرى ضخمة.

واستحضارنا لهذه الأهمية الخليجية المتعددة المصالح لواشنطن وللندن خصوصا، للقول إن دول مجلس الخليجي في وضعية الآن لتطوير تحالفها معهما بما يخدم مصالحهم الفردية والجماعية، وتستطيع حمل الغرب على عدم التدخل في شؤونها الداخلية، واحترام خصوصياتها، ورفع ضغوطاتها على مسيرة الإصلاحات الخليجية الجديدة سواء المباشرة أو عن طريق صندوق والبنك الدوليين، فمصلحة الكل في استقرار الديموغرافيا الخليجية ماليا واقتصاديا وإيديولوجيا، فهي القوة المدنية التي بها تستديم المنافع الوطنية والإقليمية والدولية، والعكس صحيح، وهذا ما ينبغي أن يفهمه الغرب أيضا، وإلا، فالتضحية بمصالحه الكبرى واردة إذا ما نفذ أجنداته في منطقة الخليج، وهي معلنة، كما سيتضح لنا ذلك المقال المقبل الذي أشرنا إليه سابقا.