حاجة الـدّين إلى الاجتـماع
سيكون من باب الإفـقار الشـديـد لمعنـى الـديـن، ومـن باب إخـطاء معـرفـتـه على الوجـه الأصـح أن يـخـتـزل الـديـن إلى مجـرد نصـوص وتـعاليـم مـن دون أن نـأخـذ فـي حسـبان التـعريـف (تعـريف الـديـن) الجماعـة المخاطـبـة بالتـعاليـم تلك: مـن قـبـل رسـول، يحمـل رسـالةً ويقـود دعـوة، أو مـن قـبـل مـؤسس الـديـن فـي الحـالات التي لا تأخـذ فـيـها الرسالـة شكـل كـتاب؛ كما فـي أكـثـر ديانات الأرض غير التـوحيـديـة. ليست الجمـاعـة محـض مـوضوع سلـبي يـقـع عليه فـعـل الـدعـوة الـديـنـيـة وعليه، بالتـالي، أن يـتـلـقـاهـا بالقـبـول وأن يـمـتـثـل لـما تـقـضي بـه من أحكـام فـي شـؤون العبـادات والمـعامـلات، بـل الجمـاعـة مـن يمـكـن نصـوص الـديـن وتعالـيـمـه مـن أن تـتـجـسـد وتصـير فـي حـكـم الواقـع المـادي؛ ويحـصـل ذلك، بالـذات، حيـنما تـتـلقـى الجمـاعـة ذلك الـديـن بالرضا والقبـول فـتـستبـطـنه ثـم تصيـر جمـاعـةً اعـتـقـاديـة أو ديـنـيـة تـلتـحـم بذلك الـديـن الذي اعـتـنـقـتـه. بيان ذلك أن ديـانـات كـثيـرةً نـشأت فـي التـاريخ - كما يـطلعـنا تاريخ الأديـان - ثـم مـا لـبـثت أن اخـتـفـت من الوجـود لسـبـب وجيـه: كونـها لم تـتـجسـد فـي جمـاعـات اجتـماعـيـة تـنـقـلها من لحظة التـعاليـم والـدعـوة إلى لحظـة الوجـود المـادي الثـابـت والمستـمـر فـي التـاريخ. الجمـاعـة الاجـتماعيـة، إذن، شـرطٌ لازبٌ للـديـن، أي ديـن؛ لأنـها الحامـل الاجـتماعي لذلك الـديـن؛ إذ هـي التي تحـقـقـه (أي تجـعلـه حقيـقـة ماديـة ماثـلة فـي الواقـع)؛ وهـي التي تحمـلـه إلى الآفـاق فـتـنشـره مـن طـريق الـدعـوة إليه والتـرغيـب فـيـه، أو مـن طـريق تـقـديـم القـدوة والأسـوة للآخـرين؛ ثـم إنـها هي من تحـفـظـه وتـحـدب عليه وتكـون المـؤتـمـن الوحيـد على استمراره. لذلك ما من ديـن يمكـن تـصـور وجـوده من دون جمـاعـة تـديـن بـه ويتـجـسـد فـيها: فـي نظامـها الاعـتـقـادي وفـي منـظـومة أفعالها كما فـي قيـمها. إن فـي الاقـتـران هـذا بيـنـهما ما يـسـتـدل به على اجـتـماعـيـات الـديـن؛ إذ هـو ليس مجـرد نظـام اعـتـقادي قابـل للإدراك من خـلال نصـوصـه وتعاليـمـه، بـل هـو - أيـضًا - منظـومـة عـلاقات تـتـولـد من ارتبـاط جمـاعـة بـه وصـيرورتـها جمـاعـةً مؤمـنـةً تـستـبـطـن تعاليـمـه ومنـظومـة أحـكـامـه وتـشريعـاتـه، وتـتـولـد -فـي الوقـت عيـنـه- من تكـيـيـف تلك الجـماعـة ديـنـها الذي تـعـتـنـقـه مع أساسيـات شخـصـيـتها الجمـعيـة المـكـتـسـبـة سماتـها. ليس الاجتـماع الإنسـانـي وحـده مـن يحتـاج إلى الـديـن من أجـل أن يـلـتحـم بأسـمنـتـه ويـنـمي تـضامـنـاتـه الـداخلـيـة التي بـها يـقـوى وتـكـون لـه الشـوكـة، وإنـما الـديـن نـفـسـه محـتـاجٌ إلى الاجتـماع الإنسـاني كـي يستـتـب له وجـودٌ وفـعـلٌ فـي الواقـع والتـاريـخ. قـد تـدحض هـذه الحاجـة المتـبادلـة الفـكـرة الخاطئـة عـن غـناء الـديـن عن النـاس، عن المجتـمع، وخاصـةً من منـظـور اعـتـقـادي توحيـدي - فـقـهي ولاهـوتـي - يـوحـي بأن مـا هـو متـعال ومطـلـق لا يحتـاج إلى الأرضـي والنـسـبي، بـل الأخيـر هـو الذي لا قيـام لـه من دون الأول. والقائـلـون بهـذا يسـتـنـتـجون منه أن الـديـن - الغـني عـن النـاس - إنـما جاء لهـدايـتـهـم إلى ما يجـعل دنيـاهـم خاليـةً من المعاصـي والآثـام، سالكـةً الطـرق التي تـرشـد إلـيها التـعاليـم؛ ومعنى ذلك - بالتـبـعـة - أن قـوام المجتمع بالـديـن لا العـكـس. غـيـر أن ما يتـجاهـلـه هـؤلاء أمـورٌ ثـلاثـة متـرابطـة: أولـها؛ أن الـديـن - فـي الحالـة التـوحيـديـة - حيـن يـتـنـزل فـي جمـاعـة، على رأسها نـبي هـو جـزءٌ منـها، يصبـح جـزءًا من التـاريـخ ويخـتـلـط بعالـم النـسـبي البـشـري، أي يـتـقـمـصـه النـسـبي البـشـري ويعـبـر عنه فـي الواقـع ويمـثـله، فلا تعـود هناك مـن فواصـل قاطـعـة. وثانيـها؛ أن الجـمـاعة ومـن يقـومـون على أمـرها (حـكـامـًا وعـلمـاء) هي مـن ينـهض بأمـر إنفـاذ أحكام الـديـن فـيـها، أي أن النـسـبي هـو مـن يـنـزل ما هـو متـعـال على الـدنـيا وليس المتعالي مـن ينـهـض بذلك بنـفـسه. وثـالثـها؛ أن الجـمـاعـة نـفسـها تسـتـأنـف رسـالة الـديـن، وعـمـل قائـد الرسـالة، فـيـها بعـد أن تـنـقـطـع التـعاليـم ويرحـل صاحب الـدعـوة الـديـنـيـة عـن الدنـيـا. مـا كـان صـدفـةً، مثـلًا، أن الجـمـاعـة الاعـتـقاديـة فـي الإسـلام لم تـكـن مشـرعـة لأمـور ديـنـها ودنيـاها، فـقـط، بـل كـان إجـماعـها من مصادر التـشريـع فـي الإسـلام عنـد علماء أصول الفـقـه وأئـمـتـه الكـبار. ومبـنى هـذا التـشـديد على مركـزيـة الاجـتـماعـي (= الجمـاعـة) فـي الإسـلام على اليـقيـن بأن النـاس يمـثـلون ديـنهـم، وخاصـة أهـل العـلـم فـيـهم، ويعـرفـون وجـوه المصلحـة فـي ديـنهم ودنياهـم من حيث هـم متـشـبعـون بالـديـن وتعاليمـه. وإذا كـانت التـعاليـم والأحكـام فـي الأديـان محـدودة، فإن المسكـوت عـنه ممـا هـو فـي حـكـم غيـر المنصوص عليه - وهـو الأكـثـر- يكـون أمـره إلى الجماعـة تـقضـي فـيه بالرأي والتـشريـع. وهـكذا، إذ تـنـصرف الجـماعة إلى المشاركـة - عبـر «أولي الأمـر» - إلى إنـفـاذ أحكـام الـديـن؛ أو إذ تـنـخرط شريكـةً فـي التـشريع، من طـريق إجماعـها أو إجمـاع علـمائـها، تجـد نـفسها تـؤدي الوظيـفـة الأساس للاجتماعي فـي الـديـنـي: حمايـته وإنـفاذ سلـطانـه وإعـادة إنتاج ذلك السـلطان الـديـنـي بحسـبان المجـتـمع والجمـاعـة الحاضـنـة الإنـسانـيـة للـديـن. أخـطأ كـثـيرون فصـلوا بين التـعاليـم والجماعـة فـنـسبـوا «الانحـراف» عـن جادة الـديـن إلى جـمـاعـة أمـعـنـت فـي التـاريـخ وأمـعـنـت، معـه، فـي البـدع وفـي الابـتـعـاد عـن أصيـل الـديـن وصحيـحـه. ولـقـد كان هـذا الاعـتـقـاد بالانـفصـال بيـنهـما أساس الـدعـوات السـلفـيـة: القـديمة والحديثـة على السـواء: فـي المسيـحيـة (البـروتستانـتـيـة) وفـي الإسلام. ومنـطوق الـدعـوة أن شطـب الابتـداع والانحـراف وقـفٌ على العـودة إلى الأصـل: إلى النـص وإلى مـا كـان عليه السـلف من الصـدر الأول. ما تـنـساه هـذه الـدعـوات أن النـص تـتـأولـه الجمـاعـة دائـمًا، وأن السلـف من الصـدر الأول هـم أنـفـسـهم الجـمـاعـة فـي ابـتـداء أمـرهـا... |