«جنين» لا بواكي لها
جنين تلك المدينة ذات الثّقل الاقتصاديّ في فلسطين، والعريقة في تأريخ المنطقة، واسمها حاضر في الأديان السّماويّة الثّلاثة، ونسبت المحافظة إليها، وبعد النّكبة كان مخيّم جنين من عام 1953م، والّذي ارتبط بمآسي الإنسان في عالم اليوم، تجسّدت هذه المآسي في الطفل والمرأة والشّيخ العجوز، وفي الإنسان كإنسان، إلى أيّ دين أو عرق أو هويّة انتسبوا، ومن أعظم هذه المآسي مجزرة جنين في 11 أبريل 2002م، ولا زالت هذه المآسي تتكرّر حتّى اليوم، وآخرها ما شاهدناه نهاية الأسبوع الماضي، والّذي نتج عنها عمليّة القدس.
إنّ هذه القضيّة لم تعد قضيّة قوميّة أو دينيّة بشكل خاص؛ بل أصبحت قضيّة إنسانيّة، على العالم أجمع أن يتحرّك في حماية الإنسان في هذه المنطقة، فمنذ ولدنا وحتّى اليوم، ومنذ بدأنا الوعي في هذه الحياة؛ لا يكاد يمرّ شهر أو أسبوع، بل وفي أحيان كثيرة لا تكاد أيام متكرّرة أو متقاربة تمر إلا ونسمع عن القتل والتّهجير ومآسي الإنسان فيها.
هؤلاء بشر مثلنا، ألا يحقّ لهم الأمن والعدل والاطمئنان والحياة الكريمة كباقي البشر، لا أريد أن تغلبني العاطفة في الحديث، ولكن في مثل هذه الأحداث المأساوية، والمجازر المتكرّرة، يغيب العقل، وتغلب العاطفة في الحديث، وحقّ أن يكون الغلبة لها، حيث أبعدت الأحداثُ العقلَ والفكر عن التّعقل، فأصبح الكل همّه قتل الآخر، وتفجيره، والبطش به، وكأننا في عالم الغاب لا عالم الإنسان.
إنّ الأديان في جوهرها وروحها لم تدع يوما إلى قتل المختلف واضطهاده وإقصائه، ولكنّها تحوي من النّصوص لو قرأت في ظاهرها، ووقف النّاس عند حرفيّتها؛ لتحوّل العالم إلى قرية واحدة لا يتعايشون فيها؛ بل إلى قرية تسيل فيها الدّماء، وكلٌ يقتل أخاه باسم الدّين نفسه، ولمّا زرت مؤسّسة التّعاطف والتّعايش Compassionate DFW في دالاس بأمريكا، والتقيت بصاحبها الطّبيب تشالرز باركير، وكان مسيحيّا بروتستانتيّا، فأسّس هذه المؤسّسة لهدف أنّه «علينا بشكل عام أو خاص أن نشعر بآلام الآخرين، ونبحث عن هذه الآلام لنقدّم الحلول، ونبتعد عن الأنانيّة، فالكثير من البشر محرومون من أقل حقوقهم الإنسانيّة، فعلينا أن نساعدهم، وأن نسعى في خدمتهم ولو كان معاديا لنا، لقد خسرنا معركة مواجهة الكراهيّة، فقد شاعت بين البشريّة، ولكن علينا أن لا نيأس، بل نواصل الطّريق في مواجهتها، ليحلّ محلّها المحبّة والتّعايش والسّلام».
بيد أنّه وجد في النّصوص الدّينيّة، خصوصا العهد القديم من الكتاب المقدّس من نصوص «كانت سببا في الكراهيّة والصّراع بين البشر، ومع هذا الأديان أيضا حملت فكرة السّلام والمحبّة، وعليه النّصوص القديمة في هذه الأديان إمّا أنّها نصوص تدعو إلى الصّراع والكراهيّة، وإمّا نصوص تدعو إلى المحبّة والسّلام، فنصوص الصّراع والكراهيّة جاءت لزمنها، ولا علاقة لها بزمننا، بينما نصوص المحبّة والسّلام هي الّتي تفيدنا في زمننا، فنتعامل مع هذه الأديان وتعاليمها بشكل إيجابي فيما يخدم البشريّة».
وإذا كان العهد القديم مليئا بنصوص قتل الآخر، حتّى الأطفال والنّساء، إلّا أننا نجد في العهد الجديد: «لا تظنّوا أنّي جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا» [إنجيل متّى، الإصحاح: 10، آية: 34]، وفي القرآن الكريم: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التّوبة: 5]، وهذه الكتب الثّلاثة هي المكوّن للعقل الجمعيّ للأديان الأربعة في هذه المنطقة المليئة بالمآسي، وهي السّامريّة واليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، لهذا يجب أن ندرك «أنّ هذه آيات إجرائيّة، والآيات الإجرائيّة ظرفيّة متعلقة بالزّمكانيّة، وليست آيات مطلقة، فهي محكومة بالقيم الّتي دلت عليها النّصوص ذاتها؛ لأنّ القيم مطلقة، ومرتبطة بالماهيّة الإنسانيّة، وسابقة عن التّشريعات الإجرائيّة، فهذه مثلا تقرأ في سياقات الاعتداء، فهي حالة طبيعيّة في التّعامل البشريّ، وإلا الأصل كما جاء في إنجيل متّى نفسه: «وسمعتم أنّه قيل تحبّ قريبك، وتبغض عدّوك، أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعدائكم، وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا معاملة الّذين يبغضونكم، وصلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم» [الإصحاح: 5، آية: 43 - 44]، وفي القرآن نفسه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]».
وبسبب هذه القراءة الحرفيّة استطاع تيودور هرتزل [ت 1904م] في كتابه «الدّولة اليهوديّة» أن يستغل فكرة النّصّ الدّينيّ ف «الارتباط التّأريخيّ لليهود بفلسطين في العقل اليهوديّ الجمعيّ كما يراه هرتزل قد يقنع شريحة أكبر من اليهود، كما يمكن استثمار الخطاب الدّينيّ بما يحقق فكرة الدّولة»، وقد وضع سؤالا في كتابه هذا: «هل سننتهي إلى حكومة ثيوقراطيّة؟»، فيجيب: «لا بالتّأكيد، إنّ العقيدة تجمعنا، والمعرفة تمنحنا الحريّة، ولذلك سنمنع أيّ اتّجاهات ثيوقراطيّة تتصدر قيادتنا من جانب الكهنوت، سوف نحصر كهنتنا داخل حدود المعابد».
إلّا أنّ هذه الفكرة لم تتجاوز كتابه «الدّولة اليهوديّة»، فاليوم إسرائيل مع علمانيّتها إجرائيّا كما يرى يعقوب ملكين في كتابه علمنة اليهوديّة، إلّا أنّها في الواقع من حيث الإعلام والخطاب هي دولة أيدلوجيّة متطرّفة تستخدم الدّين في تبرير مواقفها كما يرى إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسي في كتابهم الأصوليّة اليهوديّة في إسرائيل أنّ «الأصوليّة اليهوديّة ليست قادرة على التّأثير فقط في السّياسات الإسرائيليّة التّقليديّة؛ ولكنها قادرة أيضا على التّأثير على السّياسات الإسرائيليّة النّوويّة، ونفس العواقب الأصوليّة الّتي يخشاها الكثير من الأشخاص في بلدان أخرى يمكن أن تحدث في إسرائيل»، وأنّ المفردات الدّينيّة التّلموديّة «قد استخدمت وما زالت تستخدم في السّياسة الإسرائيليّة، ويستشهد بها غالبا في الصّحافة الإسرائيليّة النّاطقة بالعبريّة».
إنّ النّصّ الدّينيّ لم يتوقف استخدامه وتبرير جرائم قتل الإنسان باسمه عند اليهود؛ بل تجاوز ذلك إلى المسيحيين خصوصا من الكاثوليك والبروتستانت، تارة باسم مجيء المخلّص، وتارة أنّ يسوع سوف «يبسط سلطته الأرضيّة بعد معركة هرمجدون، ويقود المعركة الملائكة، ويسجن الشّيطان ألف سنة، ويحكم يسوع ألف سنة، ويحكم معه فريق يدعى القدّوسين، وهم رسل يسوع الأمناء، وعددهم مائة وأربعة وأربعون ألفا، وسينجو شعب الله، وينتهي الألم والمرض والشّيخوخة من الأرض»، وهذا لا يتحقّق إلا بقيام دولة يهوديّة، وإكراه اليهود على الهجرة، وتمكينهم في ذلك سياسيّا وماليّا، مع استغلال العاطفة الدّينيّة في تحقيق ذلك، حتّى كان الوضع كما نراه اليوم، وأصبحت القضيّة أكثر تعقيدا، يسير ضحيّتها يوما بعد يوم مدنيون من أصحاب الأرض، ومدنيّون جرّهم الواقع إلى هجرة آبائهم وأجدادهم إمّا إغراء أو استغفالا دينيا أو كرها إلى بلد ليس بلدهم، فخرجت منهم أجيال لا يعرفون إلّا هذا البلد الّذي ولدوا فيه.
لهذا نحن اليوم بحاجة إلى مزيد من التّعقل، فمن السّهل أن تصدر بيانا، أو تكتب مقالة استنهاضيّة، أو تلقي خطبة ساخنة، أو تغرّد حسب الموجة حتّى لا تتهم بالنّفاق، بيد أنّك تعمل ذلك كلّه وأنت في بيتك وقصرك مستلقيا آمنا، مع أولادك وأهلك وأموالك ومطعمك، وفي المقابل هناك من يقتل ويشرد، ويقتله البرد والجوع، والكل يغذي العقل الجمعيّ لقتل الآخر، ويستثمر ذلك إمّا لمصالح أيدلوجيّة أو سياسيّة أو نفعيّة، لهذا إلى متى «جنين» لا بواكي لها، بل إلى متى «فلسطين» لا بواكي لها، وأنا هنا أناشد المجتمع الإنسانيّ، وكلّ محبّ للإنسان وكرامته إلى رفع الظّلم عن هذا الشّعب الّذي عاني التّهجير والقتل والفقر، فلقد عاشت هذه الأديان متعايشة ومتسالمة حينا من الدّهر، وحدتهم الأرض بعد مساواة ماهيّتهم، وعبدوا ربّا واحدا شملهم برحمته جميعا، فلم ننوب عنه اليوم كذبا باسمه في قتل الآخر وتهجيره، فإذا ارتفع خطاب العقل والإنسان في كفّ المعتدي، وحماية الضّعيف، وتحقيق المساواة؛ فالنّاس أحرار في الدّفاع عن وجودهم وأرضهم وحريّاتهم، حينها لن يتوقف الدّم والصّراع، فإذا كانت لإسرائيل قوّة المال والسّلاح ودول الفيتو، فللفلسطينيّ أيضا قوّة الشّعب والأرض والإرادة، وهي أشدّ بطشا وديمومة، وأقرب إلى النّصر والتّمكين حسب سنن التّأريخ، وما ذلك ببعيد.
المراجع: كتاب: التّعارف، تعريف بالذّات، ومعرفة بالآخر، وكتاب: لاهوت الرّحمة في ضوء الفردانيّة: جدليّة الأنسنة والهويّة والظّرفيّة لكاتب المقالة.