جمعيات المجتمع المدني
تُعد مؤسسات المجتمع المدني من بين أهم منظومات الدولة الحديثة التي تقود ترسيخ القيم وتأصيل جوهر فكر المجتمع وحضارته، فهذه المؤسسات تقدم دورًا أساسيًا في التنمية الوطنية، من حيث قدرتها على المساهمة الفاعلة بمشاركة أفراد المجتمع في الفعل التنموي، وتبادل الممارسات الإيجابية الداعمة للأهداف الاستراتيجية للدولة، وتمكين الحقوق وتعزيز المساواة بين أفراد المجتمع بما يُسهم في قدرتهم على التنمية المجتمعية.
إن فعل التشاركية التي تنطلق منه أهداف مؤسسات المجتمع المدني، ينبني على إمكانات مساهمتها الفاعلة في البناء الوطني، وهي مشاركة تبادلية بين تلك المؤسسات وأعضائها سواء أكانوا من المختصين كما هو الحال في الجمعيات المهنية، أو من عامة أفراد المجتمع كما هو الحال في الجمعيات الخيرية، كما أن تلك التشاركية تتأسس أيضا من ناحية أخرى على مشاركتها في صناعة السياسات والتشريعات، إضافة إلى التقارير والملفات المحلية والدولية ذات العلاقة.
ولهذا فإن الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات دور محوري، ينطلق من الفعل المجتمعي القادر على دفع التنمية في الوطن والمشاركة الإيجابية الفاعلة ضمن مجموعة من الرؤى والبرامج والمشروعات الداعمة والقائمة على العدالة الاجتماعية، والمرتكزة على بناء القدرات الوطنية وتنمية المهارات، وتبادل الخبرات، وفتح الفرص والمجالات للشباب، وتطبيق أنظمة الحوكمة المتناسبة مع الآفاق الوطنية والرؤى التي تطمح إليها الدولة.
ولأن جمعيات المجتمع المدني المتخصصة في قطاع الثقافة، تمثِّل مرتكزا مهما ضمن تلك المنظومات الوطنية الفاعلة والمشاركة في التنمية الوطنية، فإن الدولة قد اهتمت بها ودعمت نموها وتنوِّعها ضمن آفاق الثقافة العمانية الأصيلة؛ فتأسَّست جمعيات الفنون والجمعية العمانية للكُتَّاب والأدباء والجمعية العمانية للسينما، والجمعية العمانية للمسرح وغيرها، ولعل المتابع للحِّراك المدني لهذه المؤسسات، يعرف يقينا الدور الفاعل الذي تقدِّمه في التنمية الثقافية وتمكين المهارات، ودعم التوازن بين دور المجتمع ودور الحكومة في تمكين هذا القطاع.
وإذا كانت هذه المؤسسات قد قدَّمت أدوارًا أساسية وجوهرية خلال مراحل تطورها ، فإن دورها المأمول في المرحلة المقبلة يتعاظم ويتشعَّب ضمن مقتضيات المرحلة المقبلة من عمر الدولة؛ ذلك لأن دورها اليوم عليه أن يتأصَّل وفق أهداف الرؤية الوطنية عمان 2040، ويقوم على الاستراتيجية الثقافية التي تُقدِّم الثقافة باعتبارها منطلقا للتنمية المستدامة من ناحية، وشريكًا أساسيًا في دعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية وكذلك البيئية، ولهذا فإن دور مؤسسات المجتمع المدني في القطاع الثقافي في المرحلة المقبلة عليه أن يتوجَّه نحو تأصيل هذا الفكر التنموي الذي يواكب التطلعات المستقبلية للمجتمع.
إن الدور الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني الثقافية في ظل العديد من المتغيرات خاصة خلال السنوات الخمس الماضية، قد مرَّ بالكثير من المنعطفات التي قدمته بوصفه منظومة إنسانية قائمة على أصول فكرية وقيمية حضارية من ناحية، وبيئة نشطة للحِراك المجتمعي، وتوفير فرص لأفراد المجتمع لممارسة هواياتهم وتطوير إبداعاتهم من ناحية أخرى، إلاَّ أن هذا الدور يتخذ اليوم أشكالا عدة، فلم تعد هذه المؤسسات مشاركة فاعلة في التنمية الثقافية -على أهمية هذا الدور وأصالته- بل أصبح لزاما عليها أن تقدِّم مستويات أعلى من المشاركة في آفاق التنمية الوطنية بمختلف الأشكال.
فالثقافة من بين أهم المرتكزات التي تقوم عليها الاستدامة، وهي اليوم تؤسِّس شراكة مجتمعية فاعلة مع القطاعات التنموية الأخرى وخاصة القطاعات البيئية والاقتصادية، بالإضافة إلى دورها الفاعل في المجالات الإنتاجية والخدمية التي أصبحت الصناعات الإبداعية والصناعات المساندة لها، تشق طريقها نحو فتح الفرص أمام الشباب والمبدعين لإيجاد وسائل ووسائط حديثة للولوج إلى آفاق الابتكارات الواسعة.
وللدور المحوري الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني بشكل عام، والثقافية منها بشكل خاص، فإن أهمية تعزيز أدوارها خاصة في هذه المرحلة يمثِّل ضرورة قصوى؛ ذلك لأن المجتمع يعوِّل على أدوارها المساندة والمشاركة لما تقوم به المؤسسات الحكومية والمؤسسات الخاصة، إضافة إلى ما تشكِّله من ضرورة مرحلية للتنمية الوطنية، لذا فإن الإسراع في تحديث التشريعات والسياسات المعزِّزة لأدوارها سيُسهم في تطوير أنماط عملها وتحسين ممارساتها وتجويد مبادراتها.
إن تطوير عمل مؤسسات المجتمع المدني في القطاع الثقافي لا يقوم فقط على ما تقدمه الحكومة من دعم وتحديث للتشريعات، بل أيضا ما يقوم به الأعضاء ومجالس الإدارات من ممارسات قد تجعل من فعل التطوير عاجزا عن المرور من بين تلك الممرات الضيقة والدهاليز التي يصنعونها لأنفسهم إما تخاذلا وانشغالا بأمور الحياة الأخرى وإما رضوخا أمام التحديات والإشكالات التي يمكن أن تواجهها تلك المؤسسات، وبالتالي تظل في حالة من الركود والخمول حتى يهجرها منتسبوها.
والحال أن هذه المؤسسات وجِدت من أجل إيجاد بيئة فاعلة لمنتسبيها، وبالتالي فهي الأرضية الأساسية الصلبة التي تحتويهم وتجذب الآخرين للانضمام إليها، ولهذا فإنها في الأصل تقوم على تفعيل تلك الأهداف التي وضعتها في نظامها الأساسي، وآمن بها منتسبوها. إنها البيت الحاضن الفاعل الذي يستوعب الاختلاف والتنوُّع، ويقدِّم رؤى وآفاقا تتناسب معه وتعيش ضمنه، بل وتنمو وتزدهر في ظله.
لقد شهدنا في السنوات الأخيرة نموا متسارعا بالقطاعات التنموية في الدولة، كما أن القطاع بأشكاله المتنوعة يشهد نصيبا من ذلك النمو من خلال مجموعة من الآفاق والرؤى التي أضافت على ما قدمه المجتمع خلال النهضة الحديثة، ولهذا فإن تطوير منظومة جمعيات المجتمع المدني الثقافية عليه أن يتسق مع ذلك التطوُّر، بل إن الدور التنموي الذي تقوم به عليه أن يراجع نفسه، وأن يتم تقييمه بما يتناسب مع متطلبات المرحلة المقبلة وطموح أفراد المجتمع وتطلعاتهم.
ولعل الحِراك الديمقراطي لانتخابات جمعيات المجتمع المدني يقدِّم مشهدا حضاريا في التفاعل المجتمعي والتنافس الموضوعي بين المترشحين، وها نحن نشهد انتخابات الجمعية العمانية للكُتَّاب والأدباء للفترة (2024-2026)، التي لم نشهدها منذ عام 2018، لأسباب عدة أبرزها العزوف عن الترشُّح لرئاسة وعضويات مجلس الإدارة، الأمر الذي نراه أيضا من ابتعاد -جزئي أو كلي- للكثير من الأعضاء عن التفاعل مع أنشطة الجمعية، أو المشاركة الإيجابية مع ما تقدِّمه من مبادرات وأنشطة، الأمر الذي عطَّل الكثير من أنماط التشاركية والعمل التنموي الفاعل للجمعية في المجتمع.
إن الجمعية العمانية للكُتَّاب والأدباء منذ نشأتها في عام 2002، وهي تشق طريقها نحو المشاركة والمساهمة بفاعلية في التنمية الثقافية في الدولة، فإنه بعد أكثر من عشرين عاما من العمل المتفاني الذي أسَّسه كُتَّاب عُمان، على الجمعية أن تبني عليه وتتخذه أساسا، لكن عليها بعد ذلك أن تقدِّم ما يليق بها في المرحلة المقبلة، وأن تُسِهم في دعم الحِراك التنموي بإيجابية وفاعلية، فلا يهمنا هنا أي قائمة ستفوز كأسماء أو مسميات بقدر أهمية القدرة على التطوير والإضافة وبناء المشروعات والمبادرات الرصينة التي يكون لها دور تنموي مستدام في خدمة المثقفين والوطن.