جمال زكريا قاسم.. كما عرفته
استيقظت صباح الخميس العاشر من أغسطس الحالي، وكنت أعتزم الكتابة في موضوع حددت له عنوانًا «لماذا نكتب»، فقد سبق وكتبت مقالًا في جريدة عمان «لماذا نقرأ» وقد اختمرت في ذهني فكرة المقال، بعد أن شاهدت حوارًا تليفزيونيا لنجيب محفوظ على القناة المصرية «ماسبيرو زمان» كان يجريه معه مفيد فوزي، وقد راح نجيب محفوظ يجيب عن هذا السؤال بوعي ومعرفة، إلا أن شيئًا آخر قد ألح عليّ، بعد أن استعدت حلما ليلة أمس صاحبت فيه المرحوم المؤرخ الدكتور جمال زكريا قاسم ( ١٩٣٢-٢٠٠٧ )، والعجيب إنني دائما ما تراودني الأحلام، إلا انه بمجرد استيقاظي من النوم لا أتذكر منها شيئا، إلا أن حلمي بجمال زكريا قاسم كان بمثابة قصة طويلة بدأت بأول معرفتي به، وتفاصيل كثيرة عايشتها معه، والكثير منها قد سقط من ذاكرتي، إلا أن ما شاهدته في هذا الحلم كان بمثابة سيناريو متكامل بكل تفاصيله، لذا شعرت بحنين للكتابة عن هذ الرجل العظيم المؤرخ والأكاديمي والإنسان.
كان جمال زكريا قاسم واحدا من جيل تربى وتعلم في مدرسة الأستاذ الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، التي امتد أثرها إلى كل أقطارنا العربية، فقد تتلمذ على يديه الأساتذة ليلى الصباغ، وأحمد طرابين، ومحمد خير فارس من سوريا، ومصطفى النجار من العراق، ومن مصر أحمد عبد الرحيم مصطفى، وسيد عبد العزيز سالم، وعبد العزيز نوار، ويونان لبيب رزق، وكان آخرهم أحمد زكريا الشلق، وقد وزعهم على تخصصات ما بين مصر واليمن والعراق والسودان والشام والمغرب، وأصبح كل منهم علمًا في تخصصه، إلا انه قد اختار لجمال زكريا قاسم رسالته للماچستير ١٩٥٩، عن دولة البوسعيد في عمان وشرق أفريقيا، وهي أسبق دراسة أكاديمية في هذا الموضوع، بعدها انطلق جمال زكريا قاسم للكتابة في موضوعات متنوعة، إبتداءً من موسوعته الشهيرة «تاريخ الخليج العربي» في 5 أجزاء، ثم «الأصول التاريخية للعلاقات العربية الأفريقية»، بعدها كتب عن الوجود العربي في أمريكا، والولايات المتحدة وفلسطين، ثم الصهيونية وفلسطين في الكونجرس الأمريكي، فضلًا عن عشرات البحوث والدراسات الرصينة التي نُشرت في كثير من الدوريات العلمية في كل أقطارنا العربية.
تعرفت على جمال زكريا قاسم منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، حينما كنت مواظبًا على حضور سمنار التاريخ بكلية آداب عين شمس، الذي أسسه الدكتور أحمد عزت عبد الكريم، والذي ظل منتظمًا لأكثر من 50 عاماً وكان يضم كل الأجيال من شباب المؤرخين والأساتذة الذين يقدمون تعريفًا بالجديد عما يكتبون، ويقدم التلاميذ تعريفًا ببحوثهم ومصادر دراستهم، وفي هذا المناخ العلمي الديموقراطي تكونت أهم مدرسة للتاريخ الحديث في مصر وربما في الوطن العربي. كنت غالبًا ما أفضل الجلوس إلى جوار الدكتور جمال، فقد كان يبهرني بمداخلاته وعمق ثقافته التاريخية، رغم إنني لم أكن من بين تلاميذه، فقد كنت تلميذا لأستاذ جليل آخر هو الدكتور محمود صالح منسي، الذي كان نموذجا لأستاذ الجامعة، وهو موضوع لعل الظرف يسمح بالكتابة عنه في مقال آخر.
توطدت علاقتي بالدكتور جمال لدرجة إنها لم تنقطع حتى وفاته ٢٠٠٧، امتدت إلى علاقة اجتماعية وصداقة ومحبة أقرب ما تكون إلى علاقة الأب بابنه، وكان في كل حياته غاية في التواضع ورقة المشاعر ودقة البحث العلمي، وحينما توليت مسؤولية دار الكتب والوثائق القومية في مصر، شاركني بالإشراف على ما كانت تصدره الدار من دوريات ثقافية وتاريخية، وكتب في مختلف مجالات المعرفة، وكنت أتعلم منه الدقة في كل ما يقوم به من مراجعة لكل إصدارات الدار، من كتب وبحوث ودوريات، رغم انه كان قد تجاوز السبعين من عمره، إلا أن مسيرته كانت بمثابة عطاء بلا حدود. أتذكر حينما كنت أعمل بجامعة السلطان قابوس، وقد طلب مني الأخوة في عمان أن أرشح لهم بعض الأسماء للمشاركة في ندوة تاريخية عن كتابات الشيخ سالم بن حمود السيابي، وقد اقترحت عليهم اسمين هما الدكتور جمال والدكتور يونان لبيب، وكانت المرة الأولى التي يحضر فيها الدكتور جمال إلى عمان، وقد أقيمت الندوة في «السيب»، وحضرها كثير من الإخوة العمانيين، لعلها كانت البداية في مواصلة الكتابة عن التاريخ العماني وفق المناهج العلمية المتخصصة، بعدها انطلقت عمان حينما راحت الجامعة تشكل طاقة من الوعي والمعرفة، التي لم تتوقف إلى اليوم.
عمل جمال زكريا قاسم في جامعة الكويت، وجامعة الإمارات العربية، وأستاذًا زائرًا في جامعة أكسفورد، وشارك في العديد من المؤتمرات العربية والعالمية، وشغل منصب عميد كلية الآداب بجامعة عين شمس لأكثر من 5 سنوات،. أتذكر حينما تلقى المرحوم الدكتور إبراهيم نصحي رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وقتئذ خطابًا من رئاسة الجمهورية لترشيح أحد الأساتذة من أعضاء الجمعية للمشاركة في وفد المفاوضات المصرية الإسرائيلية بشأن قضية طابا التي انتقلت إلى محكمة العدل الدولية، وقد اختار مجلس إدارة الجمعية اسم الدكتور جمال زكريا قاسم للقيام بهذه المهمة، إلا انه وبإباء شديد اعتذر مقترحًا اسم الدكتور يونان لبيب، وحينما ناقشته بشأن موقفه أجابني بأن الدكتور يونان متخصص في تاريخ مصر والسودان، وهو موقف يتسم بنبل العلماء، وظل جمال زكريا قاسم طوال حياته صاحب مواقف مبدئية ثابتة، كما كان في كل كتاباته عن تاريخ الخليج مؤمنًا بالثوابت الوطنية لدول الخليج وعروبتها، وضرورة مواجهة الأطماع الأجنبية والدعوة إلى العمل على أمن الخليج ووحدته، التي لا تتحقق إلا بوحدة أبنائه.
طوال ثلاثين عامًا كنت قريبًا من الدكتور جمال، وكنت أقطن على بُعد خطوات من مسكنه، لذا رحت أتردد عليه بشكل دائم، ربما بلا موعد سابق أحيانا، فلا أراه نهارًا أو مساءً إلا قارئا أو كاتبًا، ولم أكتب شيئًا إلا وأخذت رأيه وناقشني فيما أكتب، وبقي طوال حياته عازفًا عن الشهرة بعيدًا عن الأضواء مكتفيا بمتعة القراءة والكتابة، وكان في نهاية حياته حزينا على ما آل إليه البحث العلمي، ليس في مصر فقط وإنما في كل الأقطار العربية، فقد كان متابعا لكل ما ينشر من كتب وبحوث كان يراها مجرد كلام مرسل لا جديد فيه، وقد ودعنا رحمه الله في الأول من ديسمبر ٢٠٠٧، بهدوء مخلفًا وراءه ثروة علمية راح ينهل منها الباحثون الجدد، حتى دون الإشارة إلى اسم الرجل الذي أمضى حياته كلها مؤرخًا ومحققًا ونبيلًا.. رحم الله الدكتور جمال زكريا قاسم.