جدلـيات كلاميـة وثقافيـة
تقدم المجادلات الكلامية الإسلامية- المسيحية، ثم الإسلامية- المانوية، مثالا مميـزا لطرائق اشتغال آلية الأنا/الآخـر في تاريخ الإسلام، وفي نطاق عقدي صرف. نحن، هنا، أمام جماعتين اعتقاديـتين مختلفتين في جملة من مسائل العقيدة (التـثليث، الصلب، التجسد) على ما يجمع بينهما من مشترك توحيدي؛ وأمام جماعتين دينيـتين متمايزتين في مسائل العقيدة كلـها وأولها الإله الواحد (المسلمون) وثنوية الألوهة (المانوية). يحتفظ لنا تراث كل من الجماعتين الإسلامية والمسيحية بالكثير من معطيات ذلك الجدل الكلامي؛ كل واحد منهما في روايات خاصة، وإن كان المحفوظ من التراث اللاهوتي المسيحي في المشرق قليلا بالقياس إلى نظيره الإسلامي: الاعتزالي والأشعري والماتريدي. غير أنـا لا نعثر على مصدر واحد للمانوية عن جدال رجالها متكلمة الإسلام، على الرغم من أن المانوية جهروا بأفكارهم بمقدار من الحرية كبير، ولا تعدو معارفنا عن «لاهوتها» ما دونـته كتب متكلمين مسلمين مثل أبي الحسن الأشعري، وأبي بكر الباقلاني، وعبد القاهر البغدادي، والقاضي عبد الجبار، أو ما حفظته كتب الملل والنحل لابن حزم الأندلسي وأبي الفتح الشهرستاني. ومع ما في بعض التدوين الإسلامي من مساحات من الموضوعية والنزاهة (لدى الشهرستاني خاصة)، إلا أن افتـقارنا إلى مصادر مانوية يمثـل عـوارا في معرفتـنا لها لأسباب شـتى، قـد يكون أظهـرها أن ذلك يضعنا - حـكما - تحت تأثير السردية الإسلامـية الرسمـية (= الأورثودكسية السـنية) عنها.
على أن ما قد يكون أسوأ من واحدية هذه السردية الإسلامية عن المانوية، بما ترمز إليه من احتكار الرواية من جانب واحد، هو خلـو مصادر تاريخ الفكر المعلومة لدينا من أي شواهد على وجود حالات من الجدل العقدي الإسلامي- اليهودي؛ إذ ما أمكننا العثور على أكثر من أخبار متفرقة وشحيحة من غير قرينة عليها تؤكدها، حتى وإن كانت نصا واحدا جدليا متكاملا لمتكلمة الإسلام ونظرائهم اليهود. ولقد يكون تفسير ذلك كامنا في ضعف نفوذ الفكر الديني اليهودي، في عالم الإسلام، قياسا بما كان للتراث المسيحي العربي والمشرقي من كبير أثر في الاجتماع الديني والثقافي العربي الإسلامي؛ الأمر الذي تدلنا عليه السلطة العلمية التي كانت، مثلا، لأفكار كل من يوحنا الدمشقي، وثيودور أبي قـرة، وعبد المسيح الكندي وآخرين. ولكن قد يكون من المحتمل، أيضا، أن يكون وراء غياب تلك الشواهد فقدان نصوص ومصادر عنها في جملة ما فـقد من المصادر في الماضي، فامتنع علينا العلم به...
هذه حالة من التمثـلات المتبادلة للآخـر في دائرة العلاقة الإسلامية- المسيحية والعلاقة الإسلامية- المانوية في نطاق الاجتماع العربي الإسلامي. ومن البين للقارئ في تراث ذلك الجدل أن حدود الممايزة والمفاصلة بين فريقيه مرسومة، بدقة، من الطرفين وهي قد تبلغ حدود الإنكار والعنف اللفظي، وخاصة حينما لا تكون هناك مشتركات، على مثال ما كان عليه جدل المسلمين والمانوية. ومع أن الديني، في ذلك الإبان، كان العامل الأفعـل في تحريك التناقضات، وتوليد المنازعات والصراعات، وإضرام الجدالات الفكرية الملتهبة - وفي ذلك يستوي عالـم الإسلام وعالـم مسيحية أوروبا الوسطى - إلا أن الثـقافي والأمـوي (= القومي) ما كان أقـل أثرا، ولا كان الجدل المنعقد على مسائله دون الجدل العقدي احتداما؛ ذلك أن لذلك الاحتدام، في الحالتين، «أسباب نزول» تبـرره: إنها تكـمن في ظاهرة التـعـدد الديني والأقـوامي في الاجتـماع العربي الإسلامي وما يقترن به، بالتالي، من تعـدد ثقافي ولساني. وهذا التعدد ما كان يمكنه غير أن يكون أساسا تبنى عليه منازعات لا حصر لها بين قوى فرقت بينها عوامل الدين والجنس والثقافة واللسان. أما في حالة الاستقطاب الثقافي والأقوامي فتجري المنازعات على النحو الذي تـنمـاز به كـل جماعة من غيرها (من التي تدخل معها في نطاق مشترك عقدي) الانمياز الذي تتكون به أناها الخاصة في مقابـل آخرها.
المثال الحي للجدل الذي كان مبناه على الأقوامي والثقافي، في تجربة اجتماع مثل الاجتماع الإسلامي، هو مثال تلك المعركة السجالية التي اندلعت، في العهد العباسي الأول، ودارت رحاها تحت عنوان «الشعوبية» وتواجهت فيها نخبتان، من نصابين قوميين مختلفين (= عربي وفارسي)، تبادلتا التلاسن والتماحك والتفاخر بنـفاسة المحـتد وخالد المآثـر، وبمن كان له منهما النصيب الأوفر في تجويد حال الثاني وتعظيمها: العرب أو الفرس. ومن الطبيعي أن يلجأ - في مضاربة كلامية من هذا الجنس - إلى أسلحة ثقافية مختلفة، بل وإلى قرائن وأسانيد تنهض بها الحجة على علـو شأن ثقافة منهما على أخرى، ولسان على آخـر، والذهاب في هذا كل مذهب بما في ذلك نحل المأثور القديم واصطناع الأخبار والقصص في ذلك لبيان عراقة الأثر الأدبي، وتسفيه حجج الخصم...
والحق أنه ما كان الجدل «الشعوبي» حول الثقافة والأعراق دون الجدل حول العقائد صخبا وبعد صدى؛ فلقد انقـذف في أتـونه أظهر رموز الأدب والثقافة، فترتئذ، من طراز الجاحظ وأضرابه، ووضعت في شأنه نصوص ورسائل ذات قيمة عالية لجهة إطلاعنا على نوع الرؤى والتمثلات المتبادلة التي كان يعج بها الاجتماع العربي الإسلامي في لحظة مده الإمبراطوري والحضاري. وما كان المشترك الديني الإسلامي بين العرب والفرس ليمنع الجماعة الدينية الواحدة من أن تنقسم على نفسها على حدود الانتماء القومي والثقافي، وأن تنحدر رابطتها الأمويـة من «الأمة» الروحية (= الإسلامية) إلى الأمة المادية (القومية). هكذا شهد ذلك الاجتماع الإسلامي، إبـانئذ، على وجه ثان من تمظهرات ثنائية الأنا/الآخر، هو الاستقطاب داخل الجماعة الاعتقادية نفسها الذي يتقابل فيه حداها، تقابلا تنابذيـا، على أسس أقوامية وثقافـية.