تقارير تحسن من الشفافية وتحفز على إبداء الرأي

27 سبتمبر 2021
27 سبتمبر 2021

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

في الأسبوع الماضي اطلعت على أربعة تقارير ونشرات تتصل بالاقتصاد والمالية والاستثمار في عمان. وهي كلها تقارير غاية في الأهمية، خاصة للمتابعين للشؤون السياسية والاقتصادية، و للمهتمين بالاستثمار. تلك التقارير هي: الحسابات الختامية للدولة عن عام ٢٠٢٠، والبيان الصحفي لصندوق النقد الدولي عن الزيارة الدورية الأخيرة لخبرائه إلى السلطنة، ونشرة صادرة عن وزارة التجارة و الصناعة وترويج الاستثمار عن الفرص الاستثمارية المتاحة، وكذلك نشرة مشابهة لها صادرة عن جهاز الاستثمار. وأبدأ هذا المقال بتوجيه الشكر إلى الجهات التي قامت بإصدار ونشر تلك التقارير، خاصة أن بعضها يُنشر لأول مرة. وأُتبع الشكر بالتذكير -ولعل ذلك ليس بغائب عن المعنيين- أن أَولى المؤسسات والجهات المعنية بترويج الاستثمار وتوسيع قاعدة المستثمرين هي بورصة مسقط للأوراق المالية، خاصة أن كثيرا من الاستثمارات الواردة في ذينك التقريرين المشار إليهما هي في مؤسسات وشركات قائمة وتملكها الحكومة كلياً أو جزئيا، وهو ما يعني ضمناً أن الحكومة بصدد بيع كل حصصها أو جزء منها في تلك المؤسسات والشركات.

وكما هو معلوم فإن التخصيص والإصدارات الأولية أدوات مهمة لتنشيط الاقتصاد ولإعادة توزيع الدخل بين فئات المجتمع، إضافة إلى أنها أدوات لا غنى عنها لإنعاش بورصة مسقط وإخراجها من خمولها الذي طال أمده. وبالإضافة إلى ذلك فإن من مصلحة جهاز الاستثمار، الذي أصبح هو المالك لبورصة مسقط، أن يقوم بطرح أسهم عدد من استثماراته للاكتتاب العام عن طريق البورصة. لكن هذا المقال سيركز على تقرير الحسابات الختامية للدولة، لكون السياسة المالية هي الأداة الغالبة في توجيه الاقتصاد العماني بينما ليس لدى الحكومة ما يكفي من أدوات السياسة النقدية للتأثير فيه.

جاءت الحسابات الختامية للدولة مجملة ومن غير تفاصيل، ومع ذلك فهي خطوة مهمة ولعلها تكون في السنوات القادمة أكثر تفصيلا ومبوبة حسب بنود الميزانية العامة، حتى يكون المتابعون والمهتمون على دراية بالتفاصيل، سواء من حيث الإيرادات أو الصرف.

يشير تقرير الحسابات الختامية إلى أن الميزانية العامة شهدت العديد من المتغيرات الاستثنائية بسبب جائحة كوفيد-١٩، و يشير كذلك إلى المبادرات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة آثار تلك الجائحة. و من بين أهم ما تأثر به أداء ميزانية ٢٠٢٠ انخفاض الإيرادات بنسبة بلغت ٢٠.٥٪ عما هو مقرر عند وضع الميزانية العامة. و يعزو التقرير معظم ذلك الانخفاض إلى تراجع سعر النفط الذي كان مقدرا في الميزانية عند ٥٨ دولارا للبرميل، إلى متوسط سعر فعلي بلغ ٤٧.٦ دولار ، وانخفاض الإيرادات غير النفطية بنسبة ٩.٨٪ عما كان مقررا في الميزانية. وقد ورد في تقرير الحسابات الختامية أن إيرادات الضرائب قد انخفضت بنسبة تقارب ٢٤٪ عما كان مقررا في الميزانية، كما أن إيرادات الجمارك قد انخفضت عن ذلك بحوالي ٥٠٪ فيما انخفضت إيرادات ضريبة الدخل على الشركات بنسبة ١٧.٤٪.

أما الإنفاق الحكومي فقد انخفض بنسبة طفيفة قدرها ٢.١٪ عما كان مقررا له في الميزانية. وقد بلغ الانخفاض في المصروفات الاستثمارية في الوزارات المدنية حوالي ١٠.٥٪، في حين انخفضت المصروفات الاستثمارية لقطاع النفط بنسبة زادت على ١٣٪. إن هذا الانخفاض في الإنفاق الاستثماري يثير تساؤلا عن سبب عدم وصوله إلى المبلغ المخصص له في الميزانية، مع أهمية ذلك النوع من الإنفاق للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل! و مع أن الإنفاق العام قد تراجع بنسبة طفيفة فقط إلا أن العجز الفعلي قد ارتفع بنسبة ٧٧٪ عما كان مقررا في الميزانية، و ذلك بسبب الانخفاض الكبير في الإيرادات النفطية وغير النفطية، الأمر الذي أدى بدوره إلى ارتفاع نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي لتصل إلى حوالي ١٨٪. و يرجع هذا الارتفاع في نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى سببين تزامن وقوعهما في نفس السنة. السبب الأول هو عدم تحقيق الإيرادات التي كانت متوقعة عند إعداد الميزانية، سواء كانت إيرادات نفطية أو غير نفطية. أما السبب الثاني فهو انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة كبيرة زادت على ١٥٪. وقد سجلت الأنشطة النفطية انخفاضا بنسبة زادت عن ٢٣٪ فيما تراجعت نسبة القيمة المضافة في الأنشطة غير النفطية بنسبة ١٠.٥٪. و من حسن الحظ أن الانكماش الكبير في الناتج المحلي لم يؤدِّ إلى ركود تضخمي stagflation، حيث أشار تقرير الحسابات الختامية إلى أن التضخم كان أقل من ١٪.

ومع أن هناك مؤشرات على إمكانية تعافي الاقتصاد العالمي هذه السنة والسنوات القادمة، لكن انكماش الناتج المحلي الإجمالي بهذه النسبة العالية يعني انخفاض متوسط دخل الفرد بشكل كبير، و هو ينذر بتدني مستوى معيشة المواطنين لفترة قد تمتد إلى عدة سنوات، خاصة إذا صاحب ذلك تضخم في الأسعار نتيجة إدخال ضريبة القيمة المضافة و زيادة بعض الرسوم. كما أن عدم نمو الاقتصاد قد يؤدي إلى تراجع الإيرادات الحكومية، وبالتالي تقليص تقديم الخدمات العامة أو تخفيض جودتها، لا سيما جودة التعليم و الخدمات الصحية والبلدية، وهو أمر يجب معالجته وتلافيه بشتى الطرق.

لا شك أن جانبا من الجهود والإجراءات التي تم اتخاذها للحد من الأوضاع المالية التي تفاقمت مع جائحة كوفيد-١٩ كانت ضرورية، وقد أشاد بها تقرير خبراء صندوق النقد الدولي، وذلك بغض النظر عن سياسات الصندوق وأهدافه، التي يغلب عليها معالجة عدم الاستقرار المالي أكثر من الاهتمام بالتنمية البشرية ومؤشراتها. ولما كان تحسين مستوى معيشة الإنسان والإعداد لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة هما في مقدمة اهتمامات الدول والحكومات، فإنه يجب العمل سريعا على الخروج من الظروف الاستثنائية وإعادة عجلات التنمية إلى مسارها، عن طريق زيادة النمو الاقتصادي المولد لفرص العمل وتحسين مستوى الخدمات العامة، وفق رؤية جديدة وبالاستفادة من تجارب ناجحة في بلدان لم تكن معروفة في السابق بنجاحاتها التنموية، ولكنها أصبحت مؤخرا نماذج للتنمية الشاملة، ومن تلك الدول رواند وموريشوس وبنغلاديش. و كما أن تلك الدول أصبحت نماذج للتنمية في مناطقها، فإن عمان يمكن أن تكون نموذجا تنمويا في العالم العربي، حيث إن لديها من الموارد البشرية و الموارد الطبيعية ما يساعد على ذلك لو تمت إدارة تلك الموارد بشكل مناسب.

لقد تم خلال العام الحالي والسنة الماضية تقديم عدد من الحوافز المالية، توجه معظمها إلى الأعمال الصغيرة والمتوسطة ونالت الشركات الكبيرة أيضاً جانباً منها في صورة تخفيض للضرائب على الأرباح. لكن في مقابل ذلك زادت بعض الإجراءات تعقيداً، وزاد من صعوبة الوضع، قيام الحكومة بزيادة بعض الرسوم التي تتقاضاها، مثل ما تم في رسوم استقدام العمالة الأجنبية، الأمر الذي حد من نمو الاقتصاد وحال دون توليده لفرص العمل توليدا ذاتيا. وللتخفيف من حدة الاحتقان الاجتماعي لجأت الحكومة في الأشهر الأخيرة إلى فرض تعيين آلاف الباحثين عن عمل، سواء في أجهزة الحكومة أو في القطاع الخاص، لكن في الجانب الآخر استمرت الشركات في تسريح العمال، إما لضعف النمو الذي أدى إلى صعوبة في أوضاعها المالية وعدم قدرتها على الاستمرار، أو لرغبة بعض الشركات في إعادة التفاوض مع العمال لتخفيض أجورهم ومنافعهم، وهو إجراء اتبعته أيضا شركات تملكها الحكومة.

ومن أجل العودة بالتنمية إلى مسارها، ولجعل الاقتصاد مستجيبا للتطورات الإيجابية في الاقتصاد العالمي في فترة ما بعد كوفيد-١٩، فإنه من المناسب تحفيز الاقتصاد على الصعيد الكلي، وليس على الصعيد الجزئي والقطاعي، كما حدث في السنة السابقة والحالية. ومن الخطوات التي سيكون لها أثر إيجابي كبير على الاقتصاد، أن يتم خلال عامي ٢٠٢٢ و٢٠٢٣ تعليق فرض ضريبة القيمة المضافة، وتخفيض ضريبة الدخل على الشركات إلى ٥٪. كذلك من المناسب تعليق الرسوم التي تتقاضها الحكومة على الخدمات، بما فيها رسوم البلديات والتراخيص. ومع أنه من المهم جعل الاقتصاد ينمو في اتجاه مولد لفرص العمل للمواطنين إلا أنه من المهم في الجانب الآخر تعزيز القدرة الشرائية في البلاد وذلك عن طريق توسيع قاعدة المشترين أو المستهلكين. وفي هذا الاتجاه، من المناسب إلغاء الزيادات التي أدخلت على رسوم مأذونيات استقدام العمالة الأجنبية وإرجاعها إلى الوضع الذي كانت عليه قبل الزيادة الأخيرة. ولعل الإعفاءات من الرسوم التي أعلنت عنها اللجنة المكلفة بمتابعة آثار جائحة كورونا في الأسبوع الماضي مقدمة لخطوات أكبر في ذلك الاتجاه.

ومن قراءة تقرير الحسابات الختامية لعام ٢٠٢٠، فإن خسائر الميزانية العامة من تعليق أو تخفيض بعض الرسوم و الضرائب، بما فيها ضريبة القيمة المضافة التي تم إدخالها في السنة الحالية، ستكون في حدود ٧٠٠ مليون سنويا، بينما ستحتفظ الحكومة بإيراداتها من الرسوم الجمركية، التي لا شك أنها سترتفع بفضل الزيادة المتوقعة في الاستيراد. كما ستزيد إيرادات الحكومة من رسوم استقدام العمالة الأجنبية بفعل الزيادة المتوقعة في أعدادهم نتيجة عودة عشرات أو مئات الآلاف من الذين غادروا خلال السنوات الأربع الماضية.

بعبارة أخرى، فإنه حتى مع التعليق أو التخفيض الذي أقترحه لبعض الضرائب و الرسوم خلال عامي ٢٠٢٢ و ٢٠٢٣، فإن من المتوقع أن تكون الحصيلة النهائية زيادة في الإيرادات الحكومية غير النفطية. أما إيرادات النفط و الغاز فإن كل المؤشرات تشير إلى أن أسعار النفط ستستقر عند حوالي ٧٠ إلى ٧٥ دولارا خلال السنتين القادمتين، مما سيجعل الحكومة في وضع مريح يسمح لها بالتوسع في الإنفاق التنموي، وهو أمر لا بد منه في الخطة الخمسية الحالية على الأقل، وبدونه لن يستطيع القطاع الخاص القيام بالدور الواجب عليه في تنويع الاقتصاد وخلق فرص العمل.

*باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية