تضامن مُشفر

18 أكتوبر 2023
18 أكتوبر 2023

«فيه مظاهرة الساعة 3 بخصوص فلsطEن، تروحي؟» هذه بالضبط هي الرسالة التي وصلتني من صديقي المقيم مثلي في هنوفر - ألمانيا. والآن أنا أعرف أنه حتما لن يتأذى لو كتب «فلسطين» عوضا عن «فلsطEن»، لكن إن كان هذا يكشف عن شيء، فهي درجة التخوف التي تتجلى في الحذر -الذي يُمكن أن يصل لحدود غير معقولة- من قبل المدافعين عن حق الشعب الفلسطيني في الحياة. هذا الخوف قادم بالطبع من التضييق على أصحاب الرأي الآخر في ألمانيا، ونعت أي مدافع عن حقوق الفلسطينيين بالإرهابي والمعادي للسامية.

في الإعلام الألماني يتم التشديد على نحو مضلل على دور حماس في الوضع غير الإنساني بغزة، يُقتطع ما فعلته المقاومة من السياق العام للأشياء. فبدل أن ينظر إليه على أنه ردة فعل لسنوات من الظلم تجاه سكان غزة، يُنظر لأفعال المقاومة على أنها حافز لحرب كان يُمكن تلافيها، لولا تعطش الإرهابيين للدماء، وما يُطلق عليه المقاومة الفلسطينية ما هو إلا شر قادم من وحشية أصيلة فيهم، حسب هذه السردية.

ثمة مثال آخر أقل جدلية يُمكن الاستعانة به لتمثيل مدى جحافة هذه السردية. كتبتُ قبل أشهر عن إضرابات عمال القطارات في بريطانيا. تمت شيطنة المضربين، واعتبار ما يفعلونه متسببا أساسيا في الخسارات الاقتصادية، والخسارات في الأرواح، فالملوم عندما تتدهور حالة مريض أو يموت لأنه لم يتمكن من الوصول إلى المستشفى في الوقت المناسب- هو سائق الترام الذي لم يقم بما يُتوقع منه ذلك اليوم. وضع الأمور بهذه الطريقة يتجاهل تماما أن الإضرابات جاءت بعد سلسلة من المفاوضات الطويلة، ورفض الحكومة الاستجابة للمطالب المشروعة بتوفير العيش الكريم لموظفي الخدمات العامة.

هذا تماما ما يحدث اليوم، إذ يتم التغاضي عن خلفيات ومقدمات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإهمال السلسلة الطويلة من المسببات والنتائج، واعتبار ما حدث في السابع من أكتوبر اعتداء غير مفهوم المبررات. دون الإشارة إلى الاحتلال والحصار الممتد لعقود والذي تُخالف به إسرائيل القوانين الدولية (إن لم يكن ثمة بوصلة أخرى تُرشدنا إلى أن القتل والتهجير أمر غير خيِّر).

أي فعل عنيف يُمكن إدانته بطبيعة الحال، لكن حتى لمن يؤمنون بهذا فإدانة حماس لا تتعارض مع إدانة ما تفعله إسرائيل، والتركيز الإعلامي على سحب كلمات الإدانة من أفواه مناصري القضية الفلسطينية، يقوم في الغالب على تحيز، فالتعليق التالي قليلا ما يكون عن إدانة أفعال إسرائيل.

مع قصف مستشفى المعمداني، تُشير مادة إعلامية (منشورة على DW) مثلا إلى أنه تم قصف مستشفى تُشغله حماس. انتقاء الكلمات على هذا النحو، يُحول التركيز من الأمر الأساسي (استهداف مستشفى وقتل المئات من المرضى، النازحين، وأعضاء الطواقم الطبية)، إلى الأمر الآخر وهو أنه تحت إدارة حماس (يتجاهل هذا بالطبع حقيقة أن المستشفى في الواقع يتبع الكنيسة الأنجليكانية في القدس).

الأمر الآخر، يتم التحدث عن المجزرة وكأنها لغز دفين لا يُعرف من المسؤول عنه، أو كيف حدث؟ تتم إدانته، والمطالبة بتحميل الفاعل المسؤولية ويتم كل هذا على نحو غامض يُراد منه الإشارة إلى أن الفاعل غير معروف وغير إسرائيلي على الأغلب.

عندما يُوجد الواحد منا في هذا الجو، جو المساندة غير المشروطة لإسرائيل، فإنه لا بد وعلى نحو أوتوماتيكي ربما يشعر بالتهديد. القادمون من خلفيات كخلفياتنا (من الشرق الأوسط أعني)، معتادون على التعامل مع السلطة التي يُعارضونها في كثير من الأمور، وهم معتادون على رؤية الثمن يُدفع لمن يتشجع ويتحدى السلطة. رغم هذا ورغم أنه من غير المحتمل (حتى لا أقول مستحيلا)، أن تتجسس السلطة الألمانية على ما يكتبه صديقي في تليجرام، وأقل ترجيحا منه اتخاذ موقف معتمد على رسائله إلا أن صديقي ودون شعور يجد نفسه يتصرف بالطريقة الآلية التي اعتاد عليها في مثل هذه الحالات. وهو قد يضحك عندما ألفت انتباهه لفوبياه غير المبررة. إلا أن حقيقة واحدة ستبقى: الخوف الذي يُنتجه التحيز الكامل وغير المشروط للجانب الإسرائيلي.

الحقيقة أنني ومنذ اندلاع الحرب وأنا أتجنب الحديث عن الموضوع. أفهم أن الوضع الألماني بهذا الخصوص معقد، كما أفهم أن الخطوة الأولى لتغييره هي عبر المناقشات المضنية والطويلة مع الآخرين. لكن هذه المناقشات تأتي بثمنها، إذ يسهل فيها أن تتعرض للمضايقات، وهي يجب أن تقع ضمن قالب صوابي يصعب احترافه في ظل ظروف مستفزة كهذه.