تحية إلى البنائين الأوائل لجامعة السلطان قابوس
رغم مرور ما يقرب من 4 عقود على عملي بجامعة السلطان قابوس عام ١٩٨٦، إلا أن هذه التجربة بكل تفاصيلها ما تزال عالقة في ذاكرتي، وقد سبق لي أن كتبت عنها بعض المقالات، إلا أن الكثير منها لم يُكتب بعد، وخصوصًا الجيل المؤسس لهذه الجامعة، التي كان يترأسها الشيخ عامر بن عمير المرهوبي، وكان عنوانا للجامعة بهدوئه وإخلاصه وتفانيه، فضلا عن طاقة المحبة التي كان يدير بها الجامعة، فكل من التحق بالعمل بالجامعة وقتئذ كان يشعر بأبوة الرجل قبل أن يكون رئيسا، فقد كان مكتبه مفتوحا للجميع، وكثيرا ما كان يجتمع بأعضاء هيئة التدريس، ويتناقش معنا في البرامج الدراسية ويحدثنا عن الأنشطة الفنية والرياضية المصاحبة لها.
الملاحظة الأهم التي سجلتها ذاكرتي هي مقدرة الرجل على الاستماع والانصات بكل عناية لكل من يتحدثون إليه، فكثيرا ما كان يتحدث معنا عن التفاصيل الخاصة ببدء العام الدراسي الأول، والكثير منها كانت قضايا أكاديمية وإدارية وإنشائية تتعلق بالشركة المنفذة لمباني الجامعة، واختيار أعضاء هيئة التدريس، وهي أمور كانت تفوق قدرة أي مسؤول، لكن الرجل كان دقيقا ومؤمنا بما كُلف به من مهام ألقاها على عاتقه السلطان قابوس رحمه الله.
كان الشيخ عامر من بين العمانيين الذي نشأوا في زنجبار، وأمضى معظم حياته فيها، واستكمل دراسته الجامعية في بريطانيا، وعاد إلى وطنه الأم بعد أن أطلق السلطان قابوس دعوته إلى العمانيين المقيمين خارج وطنهم لكي يعودوا ويشاركوا في بناء وطنهم، وكان اختياره للشيخ عامر اختيارا مثاليا، رغم أن الرجل كان في مرحلة متقدمة من عمره، إلا أنه تحمل المسؤولية بكل اقتدار، حيث كان يمضي كل وقته تقريبا في مكتبه، ومن الأشياء التي عرفتها عنه أنه كان محبا للموسيقى، مغرما بصوت أم كلثوم الذي كان يحتفظ بمعظم شرائط أغانيها، وحينما كانت تستعصي عليه بعض الكلمات وخصوصا في قصائد الشعر التي كانت تغنيها كان لا يجد حرجا في أن يلجأ لأحد الزملاء في قسم اللغة العربية ( دكتور يسري سلامة)، الذي كان يتولى شرح بعض المعاني، كنا نشاهده ونحن ذاهبون إلى المحاضرات متجولا في ردهات الجامعة صباحا أو مساء.
أعتقد أن جامعة السلطان قابوس في حاجة إلى كتابة تاريخها وظروف نشأتها، ومسيرتها ودورها في الانتقال بعمان إلى مرحلة من النماء والتطور، وقد يكون من الخطأ الكتابة عن نهضة عمان المعاصرة في غيبة دور الجامعة، التي أفاضت وعيا ونماء على كل جوانب الحياة في بلد كان يسابق الزمن بسرعة فائقة.
من عوامل نجاح الشيخ عامر في مهمته هو اختياره لمساعديه سواء من العمانيين أو العرب أو الأجانب، ومن بين العمانيين الذين أدوا خدمة جليلة للجامعة منذ نشأتها الأستاذ سالم المسكري أمين عام الجامعة، وهو رجل تميز بالدقة والحزم، وتحمل كل المهام الموكلة اليه بكل اقتدار، ولم يكن يتهاون في أي خطأ في سبيل الحفاظ على مصالح الجامعة، والكثيرون كانوا يخشون صرامته في اتخاذ الإجراءات ضد كل من يتهاون في أداء عمله، وكان بمثابة العين اليقظة للجامعة، التي تطورت كوادرها البشرية والإدارية والفنية بسرعة كبيرة رغم قلة عدد العاملين بالجهاز الإداري في الجامعة وقتئذ، فلم يكن يُسمح بالتحاق أحد بأي وظيفة إلا إذا كانت مصلحة الجامعة تقتضي ذلك.
وكان من بين المساعدين للأستاذ سالم المسكري الشاعر العماني الراحل هلال العامري، وكان شابا محلقا في عوالمه قريبا من كل العاملين وأعضاء هيئة التدريس، محبا لما يؤديه من مهام، وكثيرا ما كنت استمع إليه وهو يحلم بمستقبل الجامعة التي يتطلع إليها العمانيون بكل شغف، وكان متواضعا ولديه قدرة فائقة على حل المشاكل التي كانت أحيانا تواجه العاملين أو أعضاء هيئة التدريس.
مازلت أتذكر الشاب عصام الجمالي الذي كان مسؤولا عن الشؤون المالية والإدارية، وقد رأيته أول مرة في اليوم الأول لوصولي إلى الجامعة جالسا أمام جهاز الكمبيوتر، وقد استخرج لي بطاقة العمل بالجامعة، فقد كانت لديه كل المعلومات التي تتعلق بالأساتذة والعاملين من المرتبات والإجازات واحتياجات الجامعة من الأجهزة والمعدات والوسائل التعليمية، كان يتولى كل هذه المهام بمفرده، ولفت نظري صغر سنه ووسامته وابتسامته الصافية التي لا تفارق وجهه، وقد حظي بمحبة الجميع، وفي مقدمتهم رئيس الجامعة.
حرصت عند زيارتي لسلطنة عمان بعد سنوات من تركها أن أسأل عنه، وأخبرني بعض الأصدقاء أنه ترك الجامعة واتجه إلى العمل الخاص، وحقق فيه نجاحات كبيرة، أعتقد أن جامعة السلطان قابوس قد أدت وظيفتها بكل اقتدار، سواء على المستوى البشري أو الفني أو الاجتماعي أو العلمي، وشارك خريجوها بكل اقتدار في نهضة عمان خلال العقود الماضية، وخصوصا وقد حظيت بدعم كبير من الدولة، وتميز طلابها من الجيل الأول بالطموح العلمي، الذي ضاعف من جهد الأساتذة وإخلاصهم، فقد شهدت الجامعة النبت الأول من القوى البشرية من شباب عمان، ليس في المعارف العلمية والتجريبية والأدبية فقط، وإنما في المجالات الفنية والإبداعية، حينما أتاحت لهم الجامعة المجال لصقل مواهبهم في الشعر والرواية والقصة ومختلف الفنون الموسيقية والتشكيلية.
عدت إلى سلطنة عمان أستاذا زائرا ( ٢٠١٧ )، وقد فاجأني هذا الحصاد العظيم الذي حققته الجامعة في كل مناحي الحياة، فقد وجدت الوزراء والسفراء ومديري العموم والمعلمين والمهندسين والإداريين وهم جميعا من خريجي جامعة السلطان قابوس، وفي كل مؤسسات الدولة كان خريجو الجامعة يتحملون مسؤولياتهم في كل برامج التنمية، وقد اكتشفت قدر التوسع الهائل الذي قطعته الجامعة في مبانيها وتنوع برامجها الدراسية، وخصوصا في التكنولوجيا والفن والمسرح والموسيقى، وتخرج منها فنانون وأدباء حصدوا الكثير من الجوائز المحلية والعالمية، وكانت سعادتي غامرة حينما وجدت من بين من درست لهم الوزراء وعمداء الكليات والسفراء، وهو شعور ملأني غبطة وسعادة.
تحية تقدير وامتنان للمرحوم السلطان قابوس، المؤسس الأول للنهضة العمانية، ولخلفه جلالة السلطان هيثم بن طارق ، الذي حرص على مواصلة المسيرة لكي تتبوأ عمان مكانتها اللائقة، وتكون تجربتها في البناء والتنمية موضع تقدير العالم كله.