تاريخ أئمة البوسعيد «٢»

11 مارس 2023
11 مارس 2023

في المقال السابق تناولنا حقبة طويلة من تاريخ دولة البوسعيد، منذ عصر المؤسس الأول الإمام «أحمد بن سعيد» وانتهاءً بعصر «سعيد بن سلطان» ١٧٤٣-١٨٥٦، وقد تناول المؤلف الشيخ سلطان القاسمي الذي عرفته الأوساط الثقافية والسياسية ليس كونه حاكمًا على إمارة الشارقة فقط، وإنما عرفه الجميع مثقفًا كبيرًا وملهمًا وإنسانا محبًا لكل صنوف الثقافة والأدب، على الرغم من أنه متخرج من كلية الزراعة جامعة القاهرة، وكان تخصصه في الهندسة الزراعية، لكنه كان طوال حياته شغوفًا بالقراءة والكتابة والثقافة والبحث العلمي، لدرجة أن الشارقة أصبحت في حياتنا المعاصرة بمثابة واحة كبيرة قوامها الثقافة والتعليم بمختلف مراحله، وهكذا عندما يكون الحاكم مثقفًا فإن رؤيته للحياة ومقدرته على بعث برامج مبتكرة في مختلف مجالات التنمية يضاعف من فرص نجاح تجربته الفريدة.

تناول المؤلف حقبة تاريخية تجاوزت المائة عام، وهي من أكثر الفترات التاريخية نجاحًا وإخفاقا في التاريخ العماني، فقد تعاقب عليها خمسة أئمة، لكن يظل المؤسس الأول الإمام أحمد بن سعيد الذي واجه حروبًا ضارية في الداخل والخارج هو العلامة الأهم، فضلًا عن السيد سعيد بن سلطان الذي استكمل ما بدأه الإمام أحمد بن سعيد، واستطاع بجدارة أن يؤسس لدولة كبيرة امتدت من عُمان إلى شرق أفريقيا. وعلى الرغم من كل ما كُتب عنه، لكن سيظل هذا الحاكم العظيم رمزًا للدولة التي اكتملت كل مقوماتها وسط صراعات إقليمية ودولية، وقد سجل له التاريخ أنه كان بمثابة النموذج للحاكم الذي فجر طاقات العمانيين نحو البناء والإعمار، في ظل سياسة اتسمت بالتسامح والمحبة مع كل الديانات والمذاهب والأعراق المختلفة.

لقد استطاع الشيخ سلطان القاسمي أن يكتب عن هذه الفترة الطويلة، محققًا أحوال عمان الداخلية والتحديات الخارجية وسط أمواج متلاطمة من الأطماع الإقليمية والدولية، وقد تمكن ببراعة فائقة من التعريف بتلك الصراعات القبلية التي كادت أن تؤتي على ما حققه الإمام أحمد بن سعيد من إنجازات في بناء الدولة الوطنية المستقلة، لكن اللافت للنظر أن عمان دائما كانت عصية على الانقسامات كما كانت عصية على أعدائها، وكلما كانت تحدث أزمة يُقحم فيها الدين كانت عمان تتجاوز محنتها وتواصل مسيرتها في ظل سياسة كانت تستهدف الإجماع الوطني، وتفجير طاقات الشعب بهدف بناء نظام حكم أسس له البوسعيديون باقتدار.

خاض المؤلف في تفاصيل كثيرة، وحروب قبلية متواصلة، وعلى الرغم من كل هذه المصاعب فقد كانت أعين الحكام البوسعيديين ساهرة لحماية الوطن من المخاطر الخارجية، وكلما راحت بعض القوى سواء على اليابسة أو في مياه الخليج تحاول اختراق العمق التاريخي للوطن العماني، كان العمانيون يلتفون حول إمامهم ويتناسون صراعاتهم، وكانت الجغرافيا دائما قدر هذا الوطن الكبير.

خصص المؤلف ثلاثة فصول عن السيد سعيد بن سلطان، ابتداء من الظروف التي واكبت اختياره «إمامًا»، ولم يكن قد تجاوز السبعة عشر عامًا، كما عُني المؤلف بعلاقة السلطان سعيد بالقوى الكبرى، وخصوصًا بريطانيا وفرنسا، وصولًا إلى امتداد الدولة العمانية إلى شواطئ أفريقيا، ونجاحه في إنشاء دولة امتدت من عمان إلى شرق أفريقيا، ومقدرته الفائقة على تحويل حياة الأفارقة من العصور الوسطى المظلمة إلى عصر جديد من النماء والازدهار، في ظل سياسة تساوى فيها الناس جميعًا عربا وأفارقة، وهو ما أكسبه احترام العالم.

تناول الشيخ سلطان القاسمي هذه الحقبة وما قبلها بدراسة وتحقيق كل تفاصيلها المعقدة، ورغم ذلك فقد تمكن بمهارة المؤرخ أن يقدم لنا من واقع الوثائق والمصادر الكثير عن هذه الفترة المهمة عن الوجود العماني في شرق أفريقيا، باعتباره إحدى الركائز الرئيسية في بناء الدولة التي راح السيد سعيد بن سلطان يتطلع إلى تأسيسها، رغم أنه لم يكن أول من أدرك أهمية شرق أفريقيا بالنسبة لعمان، فقد وصل العمانيون إلى هذه المنطقة منذ فترة مبكرة من التاريخ الإسلامي، حينما أقاموا قلاعهم ونشروا لغتهم وحضارتهم، وشيدوا مراكزهم التجارية، وهو الرصيد التاريخي الذي اعتمد عليه السيد سعيد بن سلطان حينما راح يبني سلطته الجديدة في شرق أفريقيا، ولم يكن ذلك غزوًا أو احتلالًا، وإنما كان وجودا حضاريًا وثقافيًا واقتصاديًا وبجهد مشترك بين العمانيين والأفارقة معا.

كتب المؤرخون والرحالة الأجانب عن السيد سعيد بن سلطان والوجود العماني في شرق أفريقيا، ولفت نظرهم إلى أن الرجل لم يفرض على الأفارقة عقيدة بذاتها ولا مذهبًا بعينه، ولم يعمل على طمس الثقافة الأفريقية، وإنما عُني بازدهار التجارة والعمران والزراعة وشيوع الأمن وبناء المدن وتعليم الأفارقة، وهو ما يفسر دخولهم إلى الإسلام فرادى وجماعات.

لقد استطاع الشيخ سلطان بهذا العمل العلمي أن ينصف العمانيين والعرب معًا، ولعل من المناسب ترجمة هذا الكتاب إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، لنكون بهذا قد أعدنا للعمانيين حقهم التاريخي ودورهم في نشر الثقافة والحضارة في شرق أفريقيا.