تأملات في مهرجان الرياض

09 مايو 2023
09 مايو 2023

رغم حبي للسفر، ورغم أني عشت في بعض بلدان الخليج التي تركت ذكريات حميمة وعميقة في نفسي؛ فإنني لم أتمن يومًا أن أزور المملكة السعودية؛ إذ لا أحب أن أزور بلدًا منغلقًا ثقافيًّا وفنيًّا، يهيمن على حياة الناس فيه تيار ديني سلفي متشدد. ومع ذلك، فقد وجدت نفسي يومًا ما سنة 2013 مرغمًا على السفر إلى السعودية؛ إذ كلفني وزير الثقافة آنذاك، الصديق الدكتور صابر عرب، بالسفر نيابة عنه إلى الرياض لحضور اجتماع الإيسيسكو لوزراء الثقافة في العالم الإسلامي، وكان برفقتي آنذاك الدكتور عبد الواحد النبوي الذي أصبح وزيرًا للثقافة فيما بعد. ألقيت في هذا الاجتماع كلمة قصيرة لقيت استحسان السادة الوزراء، ولكن جاء فيها ما أظن أنه قد أثار استياء أو حَرج رئيس المنظمة آنذاك، لما انطوت عليه من صراحة في انتقاد محاكمة المبدعين والشعراء في أي بلد بوجه عام، وكانت هناك وقتها محاكمة لشاعر من شعراء السعودية. هذه الروح المتحفظة إزاء حرية الفكر والفن والإبداع، والتي تقيد حرية الناس العاديين في كل مكان، هي ما جعلني لا أتمنى زيارة السعودية، حتى إنني في أثناء زيارتي طلبت تقديم موعد حجز تذكرة الرجوع في اليوم نفسه بدلًا من اليوم التالي؛ والحقيقة أن المسؤولين كانوا كرماء، وقالوا لي: لماذا العجلة دكتور؟ هل قصَّرنا في شيء؟ لم أعرف ما أقول، فحاولت افتعال حجة، فقلت لهم: حاشا الله، ولكن تم إبلاغي الآن بضرورة رجوعي إلى مصر لأن هناك مظاهرات للموظفين في وزارة الثقافة! كان هذا تصوري عن السعودية حتى عشر سنوات خلت.

***

هذه المقدمة الطويلة نسبيًّا لها ارتباط وثيق بما أريد قوله الآن. لأن ما يجرى الآن في احتفاليات الرياض قد عمل على تغيير الصورة الذهنية التي تشكلت لدي -مثلما تغيرت لدى كثيرين غيري- عن السعودية: ففي هذا الآن تحديدًا أشاهد عبر التلفزيون فعاليات مهرجانات هيئة الترفيه الأخيرة بالسعودية التي تم تخصيصها لإحياء فن الملحن العبقري المصري محمد الموجي، ومن قبل كانت هناك احتفاليات فنية بمبدعين مصريين وغيرهم، ومنهم الملحن هاني شنودة. وقد أسعدني كثيرًا أن أرى مطربة سعودية شابة متميزة تشارك في هذا الحفل الأخير، وهي المطربة الواعدة زينة عماد التي غنت «يامه القمر ع الباب» من روائع الموجي التي تغنت بها فايزة أحمد فيما مضى. أهمية هذه الاحتفالات الفنية تكمن في إحياء التراث الفني العربي، وجعله متواصلًا في الذائقة الفنية، خاصةً ذائقة أجيال الشباب التي تكاد تنفصل عن تراثها الفني العظيم، ومن ثم عن شيء من هويتها، رغم أن هذا التراث حديث العهد، لم يمض عليه سوى بضعة عقود! وفضلًا عن ذلك، فإن هذه الاحتفاليات يتم الإعداد الجيد لها، ويُنفَق عليها بسخاء، وتضم كثرة من رموز الفن الحاليين في العالم العربي ممن يعرفهم الشباب ويحبونهم، وهذا ما يجعل هؤلاء الشباب ينجذبون إلى هذه الاحتفاليات. يكفي أن هؤلاء الشباب في هذه الاحتفالية الأخيرة قد انصتوا إلى ألحان الموجي الخالدة بصوت العندليب عبد الحليم حافظ، مثل: «صافيني مرة، وجافيني مرة» و«كامل الأوصاف» و«قارئة الفنجان» وغير ذلك كثير من الروائع الخالدة؛ وهي تلك الأغاني التي ساهمت في تشكيل الوجدان العربي وذائقته الفنية والجمالية في مرحلة خلت.

مَن كان يتخيل أن هذا يمكن أن يحدث في السعودية في غضون سنوات قليلة؟! هذا شيء مذهل يدعو إلى الدهشة والإعجاب في الوقت ذاته. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل هذه الاحتفاليات كافية لحدوث نهضة فنية وفكرية شاملة؟ لا شك في أن هذا يعد خطوة مهمة لتحقيق ذلك. ومما يدعو إلى التفاؤل أن هذه الاحتفالات الفنية قد سبقها شيء من الانفتاح المعرفي الذي تمثل في نشأة جمعيات فلسفية، ودور نشر تهتم بترجمة الأعمال الفكرية والفلسفية، مثل «مؤسسة معنى». وكل هذا هو نتاج جهود فردية قام بها أساتذة في مجالات الفكر والفلسفة، فضلًا عن الفنانين والأدباء والداعمين للفن. ومع ذلك فإن هذه الخطوة- على أهميتها القصوى- تظل خطوة أولى تحتاج إلى ما يدفعها في سبيل تحقيق النهضة المنشودة؛ إذ لا بد أن يواكب ذلك تأسيس للأرضية التي يقوم عليها إنتاج الفن والفكر، وأعني بذلك تحديدًا إنشاء أقسام علمية مختصة في الدراسات المتعلقة بالفنون وبالدراسات الفلسفية. وأذكر هنا أن الكويت وسلطنة عُمان من بعدها كانتا سبَّاقتين في هذا الصدد، وإن كنت ألاحظ تراجعًا في مستوى هذه الأقسام العلمية بالخليج عمومًا.

هذا التحول الذي جرى في السعودية في غضون سنوات قليلة هو ما يدعو إلى توجيه التحية لكل من أسهم فيه، وأظن أن كل مسؤول مخلص لا بد أن يريد لهذا التحول أن ينضج ويكتمل. وهذا التحول يوحي بأمر بالغ الأهمية، وهو أن التغيير ممكن دائمًا في أية دولة إذا ما كانت الإرادة السياسية تريد حقا حدوث هذا التغيير، وأظن أن هذا هو الدرس الذي ينبغي أن نضعه نصب أعيننا دائمًا حكامًا ومحكومين.