بين صحاري وواحات الغذاء.. قول على قول
اكتسب وادي السيلكون في ولاية ماساتشوستس الأمريكية - بجانب كونه مركزًا فكريًا وتكنولوجيًا- شهرةً كبيرةً بسبب طبيعته الخلابة، وإنتاجيته الزراعية العالية من الفواكه والخضراوات والزهور، فحمل لقب «وادي بهجة القلب» مدةً من الزمن، ولكن سرعان ما فقد الوادي لقبه الشاعري هذا في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، إذ انتشرت بين سكانه حالات أمراض القلب التاجية، والعلل المزمنة الأخرى مثل البدانة، وداء السكري، والتي تتعلق بشكل مباشر بأنماط التغذية، وأظهرت المسوحات الاجتماعية أن التخطيط الحضري للأحياء السكنية جعلت الوصول للأغذية الصحية الطازجة تحديًا أمام السكان، وعلى الرغم من قدراتهم الشرائية إلا أن سوء التغذية كان سائدًا، وأسفرت هذه الظاهرة عن نشوء مصطلح مهم في جغرافيا الاقتصاد وهو «صحاري الغذاء».
تُعرَّف الأدبيات مصطلح صحاري الغذاء بأنها تلك النقاط الحضرية التي ينعدم أو يقل فيها الوصول إلى خيارات الغذاء الصحي، وذلك إما بسبب عدم توفر منافذ بيع قريبة، أو لعوامل تأثير خارجية تفرض استهلاك البدائل غير الصحية، كسلوك جماعي غير إرادي، مثل التأثير غير المباشر لانتشار سلسلة المطاعم السريعة في الأحياء السكنية القريبة من النطاقات التجارية، وبذلك فإن صحاري الغذاء لا تتعلق بشكل رئيسي بالقدرة الشرائية، ولكنها ناتجة عن التأثيرات متعددة المستويات لبيئة المدن، ومرافقها وتوزع منشآتها، وإن كان التعريف يبدو ظاهريًا بسيطًا، إلا أن صحاري الغذاء تضع عبئًا ماليًا ضخمًا على المؤسسات الصحية في إدارة الأمراض المزمنة غير المعدية، وتعكس بعدًا عميقًا لغياب مواضيع الغذاء ولفترةٍ طويلة عن أجندات التخطيط التنموي والحضري والإقليمي.
إذا تأملنا النتاج المعرفي والعلمي اليوم، نلاحظ أن محور تخطيط التنمية الموجه إلى زيادة الأمن الغذائي والتغذوي والصحة العامة يعد مسألةً أقل نقاشًا من الناحية البحثية والفكرية، وأقل من ذلك بكثيرٍ في عالم التطبيق والممارسات العملية، على الرغم من أن مفكري الحقبة الزمنية في نهاية القرن التاسع عشر قد أشاروا إلى أهمية بناء ما أسموه اقتصاد الغذاء، ويأتي على رأسهم المفكر الاقتصادي الإنجليزي إيبينيزار هوارد، الذي نوهه بأن «المدينة لا تُبنى لدعم قطاعي الصناعة والخدمات وحسب، إنما يجب أن يراعي التخطيط الحضري الجيد بناء اقتصادٍ غذائي حيوي ومتكامل يضمن المرونة والدبمومة المستقبلية»، وبذلك فإن الغذاء في سياقه الاقتصادي يمثل رافعة جوهرية للتغيير التحويلي نحو الاستدامة.
تعالوا نعود إلى سقوط وادي فرحة القلب، إذ تزايد الوعي العام داخل الولايات المتحدة الأمريكية بالتداعيات العميقة التي فرضتها البؤر القاحلة في وادي السيلكون، بعد اعتماد مصطلح صحاري الغذاء، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى جهود العلماء والباحثين من مختلف فروع العلوم البحتة والتطبيقية، ونشطاء المجتمع المدني، ورجال الأعمال، والمسؤولين من القطاع الحكومي والخاص، والمهتمين بموضوعات الغذاء الصحي، فظهرت الكثير من المبادرات الابتكارية والابداعية، مثل حملة «هيا بنا نتحرك» التي انطلقت لمكافحة السمنة لدى الأطفال دون سن الثانية عشرة، والتي تضمنت هدفًا للقضاء على صحاري الغذاء باستثمار مليارات الدولارات، التي ضختها الحكومة الأمريكية، بالتعاون مع القطاع الخاص والعديد من الهيئات المانحة، كما ركزت المبادرات الأخرى على وضع آليات الدعم والتسريع، مثل توفير الإعفاءات الضريبية للمتاجر الكبيرة التي تفتح فروعها في الصحاري الغذائية، وفرض القيود التنظيمية على فتح منافذ جديدة لمطاعم الوجبات السريعة في الأحياء السكنية، وتقديم حوافز مالية للمنشآت الغذائية التي تقدم الوجبات الصحية المغذية للفئات المهمشة مثل الأطفال واليافعين وكبار السن، وكذلك تلك التي تتبنى مبادرات للانفتاح على الطلبات المجتمعية ذات العلاقة بالجذور الثقافية، وتعزيزها بالبدائل الصحية مع الحفاظ على أصالتها، لتوجيه ميول المستهلكين نحو التغذية الصحية المتوازنة.
نجحت هذه السياسات في شحن المجتمع بالشغف في الابتكار للتصدي لتحديات صحاري الغذاء، والمحافظة على الصحة العامة، فأطلقت معظم الولايات الأمريكية برنامج دعم العربات الخضراء، الذي كان يهدف لخلق فرص عمل غير مألوفة في سلسلة التوريد الغذائي، واستهدف شرائح الباحثين عن عمل والمتقاعدين، وتضمن برامج تدريب مهنية في إدارة مشاريع العربات الخضراء، وتكفلت مكاتب البلدية باستكمال التراخيص والتصاريح المرتبطة بتداول الفواكه والخضراوات الطازجة وتسويقها في الأحياء السكنية داخل صحاري الغذاء، وبالتوازي مع هذه الجهود الحثيثة، أطلقت المدارس برنامجا رياديا وابتكاريا وجه الطلبة لإنشاء حدائق مجتمعية لإنتاج المحاصيل الموسمية داخل المدارس النظامية، ورافق البرنامج حملة تثقيفية ممنهجة حول أهمية الزراعة في مكافحة ندرة الغذاء، وتشجيع المنتجين الصغار للمساهمة في سد فجوة الوصول إلى الغذاء الصحي لدى أقرانهم الذين يقطنون داخل صحاري الغذاء، وبذلك نجح هذا الحراك المؤسسي والمجتمعي في توليد كتلة حرجة من رواد الغذاء على جميع المستويات، لمواجهة تحديات الأمن الغذائي والتغذوي داخل المدن.
وبالإضافة للولايات المتحدة الأمريكية، ظهرت تجارب من مختلف دول العالم لتعزز المعرفة العالمية المتجذرة في ممارسات وبرامج وسياسات تخطيط الأغذية المحلية، وألهمت التحول الإيجابي تجاه دمج مواضيع الغذاء في التخطيط التنموي، وأسهمت في استخلاص فهم أوسع لحوكمة الاستدامة الحضرية بجميع أبعادها، وذلك لا يأتي من استنساخ التجارب الفردية الناجحة، وإنما من التعلم منها، والبناء على الرؤى المنبثقة من المجتمعات البحثية والمعرفية المتكاملة، بما في ذلك علوم الهندسة، والبحوث الاجتماعية، والدراسات البيئية، والمدارس الفكرية التي تُعنى بإيكولوجيا السياسيات، ونظم إدارة آليات للتخطيط والتنسيق، وتحفيز الترابط والتكامل مع القطاعات الحضرية الأخرى ذات الصلة بقضايا الغذاء، على سبيل المثال، غالبًا ما يأتي ذكر مدينة روزاريو الأرجنتينية كتجربة منقطعة النظير في إدماج اقتصاد الغذاء في جهودها التنموية، ولكن يغيب عن أذهان الكثيرين أن هذا النموذج التنموي الناجح قد استغرق أكثر من 15 عامًا، قبل أن يصل إلى مرحلة التمكين، والقدرة على ترجمة محاور التخطيط إلى مشاريع ناجحة، وسياسات مرجعية داعمة، هذه المدينة الرائدة في تخطيط الغذاء حشدت جميع مواردها بشكل بعيد كل البعد عن النمط التقليدي في التعاطي مع موضوعات الغذاء، كان مفتاح نجاحها يكمن في الالتزام التشاركي نحو إحداث التغيير المنشود بنهج مرن وسريع التكيف، إذ حرصت تجربة الأرجنتين على تضمين جميع الشركاء والمعنيين وأصحاب المصلحة منذ مرحلة رسم مواثيق واستراتيجيات الغذاء، وحتى تنفيذ البرامج الاستراتيجية طويلة الأمد، باعتبار الشراكة أمرًا محوريًا لا غنى عنه.
وهذا يضعنا أمام واقع تحديات قلة إدماج تخطيط الغذاء في المشهد التنموي الشامل، إن نشوء صحاري الغذاء وغيرها من الظواهر تتطلب الكثير من توظيف الحس الاستراتيجي، فهذه التحديات تنبع من مداخل متعددة، وهي تلامس التنمية الاقتصادية والاجتماعية، من عدة زوايا، وتنعكس بشكل مباشر على الصحة العامة، وفرص العمل اللائق، ومتطلبات تحقيق الاستدامة البيئية، مما يستوجب النظر إلى صحاري الغذاء بشمولية أكثر، وترقيتها إلى ما وراء سياقاتها المحلية القائمة على المكان الجغرافي، فهذه الصحاري ليست قضية حضرية، أو شأن زراعي يمكن تصحيحه بوضع تصميم حضري جديد، إنما يجب البحث عن نقاط التحول نحو أنظمة غذائية ابتكارية، بتحفيز التغيير التدريجي من خلال تراكم المكاسب التكتيكية الصغيرة، التي تضيف زيادة تدريجية نحو التحول الكلي المنشود.
وبالعودة إلى تجربة الولايات المتحدة الأمريكية والأرجنتين، يمكن تصور مشهد التحول من صحاري الغذاء إلى واحات الاستدامة باعتبارها عمليات مرحلية، تبني مستهدفاتها على تنويع المبادرات الحالية المبتكرة، والحفاظ على المكتسبات الآنية، ثم توسيع نطاقها بالإضافة المستمرة لمحاور استراتيجية وتكتيكية، وكأنها «بذور المستقبل»، مع إتاحة الوقت لتبلور هذه العمليات، وظهور آثارها الناتجة عن التحولات المتعددة الصغيرة، التي تتراكم بانتهاء الخطوات المرحلية، وتتحد وتعزز بعضها البعض، وتنتهز بذكاء تهيؤ فرص التغيير، والتطورات التكنولوجية المتتابعة، وبذلك تصبح مدمجة في نطاقات أعلى من التأثير الإيجابي، وبصورة ديناميكية تعزز بناء الصورة الكاملة من جهة، ومن جهةٍ أخرى تسمح بالاستفادة من الإنجازات الصغيرة المتحققة طوال رحلة التحول والتغيير الإيجابي.