بيان هابرماس.. وازدواجية معايير حقوق الإنسان!
بالرغم من أن القيم الكونية، في التجريد النهائي، هي قيم لا تقبل التجزئة في سياقها الإنساني لكل البشر، كقيم العدالة والحرية، إلا أن التعبيرات التي تنعكس من خلالها تلك القيم في مواقف كثيرين من نخب الغرب تبدو تماما كما لو أنها تعبيرا عن قيم أشبه ما تكون قيما خاصة منها كقيم إنسانية عامة ولا تقبل التجزئة.
يتجلى ذلك بوضوح في سياق منعكسات الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين على مواقف الحكومات الغربية، وكذلك على كثير من مواقف المؤسسات الثقافية في الغرب وكثيرا من النخبة الفكرية والثقافية في ذلك الغرب.
وإذا كان مفهوما ذلك السياق الذي تقتضيه مصالح حكومات الغرب الأمريكي والأوروبي حيال إسرائيل، تلك التي تم التعبير عنها علنا كموقف الولايات المتحدة الداعم لإسرائيل بصور كان أكثر المعبرين عنها هو الرئيس الأمريكي جو بايدن ذاته، حين وصف ذلك الدعم الأمريكي لإسرائيل بأنه استثمار في مستقبل الأجيال الأمريكية القادمة، فإن ما هو غير مفهوم وغير مبرر مطلقا هو تلك الحالة التي يتم فيها تعاطف كثير من النخب في أوروبا -وخصوصا في ألمانيا- وأمريكا مع الظلم الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين المدنيين الأبرياء بطريقة تبدو معها أن قضية التعاطف مع إسرائيل -كيفما كان- من الثوابت الأخلاقية التي لا تقبل الجدل مطلقا، حتى بدت بعض التعبيرات الصارخة عن ذلك التعاطف غير المبرر في ألمانيا، مواقفَ لا يمكن فهمها ضمن أي سياق أخلاقي وإنساني مطلق، مثل منع مشاركة الروائية الفلسطينية التي تعيش في ألمانيا عدنية شلبي من المشاركة في إحدى ندوات معرض فرانكفورت التي كانت مجدولة في برنامج المعرض على خلفية ما حدث في غزة. وكذلك الاعتراض على الفيلسوف السولوفيني سلافيوي جيجك في إحدى ندواته بمعرض فرانكفورت فقط لمجرد ذكره اسم فلسطين والفلسطينيين في كلامه، الأمر الذي سيعكس لنا إلى أي مدى تلك القيم قيما كونية حقا في عقول أمثال هؤلاء المعترضين لمجرد ذكر اسم فلسطين في محاضرة لفيلسوف كبير؟
بلا شك ثمة سياق غربي ما يغلف تلك القيم الكونية ليمنحها معنى غريبا أقرب إلى التناقض في تمثلات كثير من النخب الغربية لتلك القيم حال التعبير عن بعض المواقف الأخلاقية التي لا تقبل الجدل.
ولعل أبرز ما حدث مؤخرا في هذا الصدد، البيان الذي أصدره الفيلسوف الألماني هابرماس مع عدد من زملائه وتلامذته في 15 أكتوبر في دعم الحرب الإسرائيلية على غزة. وهو البيان الذي لقي نقدا أخلاقيا لمثقفين وفلاسفة غربيين آخرين طالبوا فيه هابرماس بضرورة الالتزام بالمعايير العالمية للحقوق.
اليوم هناك في الغرب ثمة صوت لمثقفين غربيين -وهم أقلية على كل حال- يعلن إدانة ما يحدث في غزة من عدوان إسرائيلي غير مبرر وغير مسبوق عبر المجازر الدموية راح ضحيتها آلاف المدنيين من النساء والأطفال وكبار السن. ومن تلك الأصوات البيان الذي نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية يوم 22/11/2023 بتوقيع كل من آدم توز، وصموئيل موين، وآميا سرينيفاسان وآخرين، ردّا على البيان الذي كان وقعه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس إلى جانب نيكول ديتلهوف، وراينر فورست، والذي كان قد اتسم بالانحياز إلى إسرائيل وتجاهل الفلسطينيين.
لا تبدو ثمة سياقات عادلة لتحرير مواقف إنسانية غير قابلة للتجزئة في الغرب بين كثير من نخبه -إلا فيما ندر- وهو ما سيجعلنا نعيد تساؤلات كثيرة حيال هوية الالتزام بالمعايير الإنسانية والأخلاقية لتلك القيم في مواقف النخبة الغربية في بعض الحالات كالوضع الذي يحدث في غزة اليوم؟
هل يمكن القول إن السياق المادي لأوروبا والمحضن الذي نشأت فيه قيم الحداثة الغربية وسيرورتها هو سياق لا يمكنه أن يعكس هوية إنسانية في مواقف الالتزام بكونية تلك القيم إلا في سياق غربي بالضرورة؟
موقف الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ورفاقه -في ذلك البيان المعبر عن وقوفهم مع إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع تجاهل الجرائم الإنسانية الواضحة في بعض تجليات دفاع إسرائيل عن نفسها (كالمذابح التي ترتكبها اليوم في غزة بحق المدنيين الفلسطينيين) هو مأزق لا يمكن إلا أن يعكس تناقضا واضحا في الالتزام بالمعايير العالمية لحقوق الإنسان، ويمثل تطابقا غير مبرر مع موقف حكومات الغرب. وهو موقف معيب يفضحه تقدم موقف الشعوب الغربية عبر المظاهرات التي تنطلق باستمرار في عواصم العالم ضد ما ترتكبه إسرائيل من مذابح بحق المدنيين الفلسطينيين.