بناء الذاكرة الاجتماعية
« إن الاستعمار البغيض يركز على الناشئة ويعمل على حقنها ليل نهار بأدوات التغريب، إمعانا في إقصائها عن واقعها الاجتماعي، لكي تظهر في المجتمع الإنساني مسلوبة الهوية »
تفتخر الشعوب الأصيلة، انطلاقا من الحمولة الخصبة التي تضمها ذاكرتهم الاجتماعية، فالذاكرة هي المقياس على الذي يقاس عليه حضارة الشعوب، وتأصيلها الإنساني والحضاري، على حد سواء، وأيما شعب خلت ذاكرته من هذه الحمولة المتمثلة في العادات، والقيم، والمعتقدات، والأفكار، والسلوكيات، والتأريخ، والتراث بمادتيه: المروي والمادي، هو شعب متسلق، وإن جلب بمادته من هنا أو هناك، ما يراه أنه يخدم ذاكرته الاجتماعية، لأن هذا البناء صناعة تعكس هوية متجذرة و«الناس هم الذين يصنعون التأريخ» كما يقول سلفادور اللندي - سياسي تشيللي-.
يأتي البحث في بناء الذاكرة الاجتماعية، البحث في مجموعة التماثلات والأنساق الاجتماعية، ويأتي النظر في مجموعة الإرهاصات التي تفعل هذا البناء، وتستقصي مجموعة الأبعاد الاجتماعية التي من شأنها أن تعزز هذه الذاكرة، فالذاكرة الاجتماعية، يدرك الجميع، أنها تمثل أهم محطة إنسانية في حياة المجتمعات، وتأخذ أهمية خاصة، وذلك لقدرتها على المحافظة على الهوية، وعلى الانتماء، وطالما استطاعت الأجيال المتلاحقة أن تعمل على إضافة أرصدة في تعزيز هذه الذاكرة، فإنها في المقابل استطاعت أن تحافظ على كينوناتها الخاصة جدا، التي تحافظ من خلالها على هويتها، وعلى خصوصيتها، وعلى تفردها، فالمساحة المتاحة للاشتغال الاجتماعي، مهما تطورت الحياة، تظل هي القائد نحو إنقاذ أفراد المجتمع من التماهي، ومن الانصهار في مختلف الهويات، فكما هو معلوم بالضرورة أن الكون الإنساني به من الهويات التي لا تعد ولا تحصى، وبالتالي، ففي وسط كل هذه الهويات مجتمعة تغيب وتضمحل الهويات الخاصة، إن لم تجد من يعتني بها، ويحافظ عليها، وهذا الاعتناء، وهذه المحافظة لن تتم إلا من خلال التغذية المستمرة للذاكرة الاجتماعية، سواء عبر برامج ممنهجة وموجهة ومقصودة، أو من خلال عمليات المسؤولية الذاتية عند كل فرد في المجتمع، ولذلك لم يحدث حتى الآن أن هناك مجتمعات انصهرت حتى آخر فرد فيها، في هويات مؤثرة، ولو عن طريق الاحتلال والحروب، بقيت هناك فئة تناضل، وتكافح، وتبذل المستحيل لأن تبقى، ولأن تتميز، ولأن تعبر عن ذاتها بكل صدق ويقين.
وإلى زمن قريب لعبت الجدات -رحمهن الله- دورا فاعلا في بناء الذاكرة الاجتماعية، وذلك من خلال ما كنَّ يغذين به الأطفال من الحكايات والأساطير، المبالغ بعضها في تجسيدها على أرض الواقع، ولكن مع ذلك شكلت ثروة من المخزون الثقافي، حيث كانت الذاكرة الطفولية تحلق بخيالاتها إلى البعيد وهي تسمع ذلك السرد الجميل الذي تضفي عليه الجدات الكثير من بهارات الخيال، والتشويق، ولم يقتصر دور الجدات عند هذا الحد فقط، بل كان بعضهن ممن يعرفن القراءة والكتابة، يقرأن على هذه العقول الصغيرة «المتشوقة» للمعرفة في تلك الأزمنة التي كانت مصادر المعرفة فيها شحيحة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ولذلك قمن بدور محوري مهم في تغذية الذاكرة الطفولية، سواء بما يتوفر من معرفة مكتوبة، أو معرفة مروية، وسواء أكانت هذه المعرفة مختصة بشأن من شؤون الحياة اليومية، أو المعرفة المتوارثة من القيم، والعادات، والآداب، والسلوكيات، والسمت الاجتماعي الرفيع، ولذلك كانت مخرجات هؤلاء الجدات من أبناء المجتمع (ذكورا وإناثا) على قدر معقول من الوعي الاجتماعي، ومن المتحصل المعرفي، مما أوجد بين أحضان المجتمع أفرادا قاموا بتجسير المسافة المعرفية بين كبار السن، الذين عازتهم هذه المعرفة، وبين أقرانهم، ومعنى ذلك أن هذا التأسيس كان له دور كبير في تسلسل معرفي غير منقطع، ويضاف إلى ذلك، وبشكل كبير الدور المهم جدا الذي لعبته مدارس القرآن الكريم في كل القرى، تقريبا، مما شكل تعاضدا مهما بين الدور الذي لعبته هؤلاء الجدات الكريمات، وبين هذه المدارس، مما أرخى سدوله على الصورة العامة للمجتمع، وعزز يقينا بناء هذه الذاكرة، وأصل دورها المحوري في المحافظة على الهوية والانتماء، وأتحدث هنا عن قبل فترة السبعينيات من القرن المنصرم، وأعد نفسي شاهد عصر لتلك الفترة الزمنية التي لعبت فيها الجدات العزيزات هذا الدور التأسيسي في بناء هذه الذاكرة، في وقت لم يكن للعلوم الحديثة أي موطئ قدم بعد، وهنا يمكن القول أن ما قامت به الجدات هو الإرهاصات التأسيسية لبناء الذاكرة الاجتماعية، قبل أن تشيع المعرفة بعد ذلك، وتتعدد مصادرها للأجيال، وصولا إلى هذا الزمن الذي نعيشه اليوم.
يقال: «شعب بلا ذاكرة، شعب بلا تاريخ» وهي مقولة على درجة كبيرة من الواقعية، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، فتاريخ الإنسان محمول على هذه الذاكرة، سواء خلدت هذه الذاكرة عبر كتابات، أو رسومات، أو منقوشات حرفية، أو عبر صور، أو عبر الذاكرة الشفوية، ولو أن الذاكرة الشفوية خطورة انتهاء صلاحيتها كبيرة لأنها مرتبطة بعمر هذا الإنسان الذي يحمل ذاكرته في ذهنه، وبالتالي فمتى غادر هذه الحياة ذهب بكل ما عنده من مخزون الذاكرة، ومن هنا، أيضا، تأتي أهمية تدوين كل منتج إنساني: مادي، أو مروي، حتى يظل الشاهد الوحيد على أن هذا المكان، أو ذاك مرت منه أمة ما، كان لها تاريخ، ولها أثر، ولها موطئ قدم، يعبر عن كثير مما يمكن أن يقال عنها، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: من يعنيه بناء الذاكرة الاجتماعية، ومن المستفيد من هذا البناء؟ قد يكون السؤال مباشرا هنا، مع أن الإجابة عليه تحتاج إلى كثير من التركيز، فبناء الذاكرة الاجتماعية، وبما أنها لا تتم في يوم وليلة، فيظل الجميع تعنيهم هذه المهمة، والقيام بهذه المهمة، لا يستلزم أن يكون هناك عائد مادي مقبوض للإنجاز، فهي مسؤولية إنسانية ومجتمعية، يستشعرها الجميع دون وصاية، ودون أمر، ودون محفز مادي، فالإحساس بمسؤولية البناء يتطلب الكثير من استحضار أهميتها الحضارية، ولذلك فهذا البناء لا يتموضع في إطاره المكاني، أو يستنفذ دوره بمرور الزمن، فليس هنا «صلاحية استعمال» موقوتة بزمن يبدأ من النقطة «أ» وينتهي عند النقطة «ب» لأن في هذا البناء تتم عمليات بناء الأجيال بمكوناتهم الاجتماعية، والمادة الاجتماعية شديدة الحساسية، فهي ليست مادة مقبوضة، أو توزن بموازين الزيادة والنقصان، وإنما يلمس تأثيرها على سلوكيات الناس، وأنشطتهم في الحياة، وبالتالي فقد ترى فلانا من الناس من البقعة الجغرافية الفلانية، يعيش في بقعة جغرافية بديلة في مشرق الأرض أو مغربها، وقد عرفته بهويته، التي تعكس ذلك البناء المتأصلة الذي احتوته الذاكرة الاجتماعية للمنشأ، ومن هنا تأتي أهمية هذا البناء، وضرورة تأصيله في الأجيال، ومن هنا يعكس أيضا خطورة عدم تأصيل هذا البناء في حالة الإخلال باستحقاقاته الاجتماعية، والإنسانية، ولذلك نرى كيف يحرص الاستعمار البغيض على سلخ هويات سكان الدول التي يحتلها، وكيف يحرص على تغريب القيم، والسلوكيات المتجذرة في هذه الذاكرة، ولأن كبار السن لا يمكن التأثير عليهم بالصورة المتوقعة عند صغار السن، فإن الاستعمار البغيض يركز على الناشئة ويعمل على حقنها ليل نهار بأدوات التغريب، إمعانا في إقصائها عن واقعها الاجتماعي، لكي تظهر في المجتمع الإنساني مسلوبة الهوية.
وهل يحتاج هذا البناء إلى منهج متدرج؟ وماذا عن المعززات الفطرية؟ لا تفكي المعززات الفطرية لبناء هذه الذاكرة، لشمولية المحتوى، وتعدد عناصرها، وحساسية موضوعاتها، فهل تعتمد على الذكاء؟ أو تعتمد على سرعة البديهة؟ أو تعتمد على الشعور بالمواطنة؟ أو تعتمد على الـ «هبة» المجتمعية؟ أو تعتمد على الجهد الشخصي؟ هذه كلها قد تسهم في بناء المنهج، الذي يوضع كتأسيس لآليات البناء، وهو منهج يمتد من الأسرة، فالمدرسة، فالمؤسسة التعليمية العليا، بحيث لا تفقد المادة الاجتماعية طوال مراحل الإعداد هذه، وعند اكتمال الوعي لدى الأفراد عند هذه المستوى، يستطيع من بعدها أن يشق طريقه بنفسه، وهو مؤمن بأهمية أن تكون هناك ذاكرة اجتماعية شاملة، وواسعة، تستطيع أن تحقق له الهوية، والانتماء، دون أن تؤثر عليه عوامل التغريب، أو التشويه، وتلعب الصور الذهنية دورا تعزيزيا في هذا البناء، وذلك من خلال ما تشكله من محصلة معرفية -بانورامية- تستحضرها الذاكرة في أي لحظة تماس من شأنها أن تربك هذا المخزون، وخاصة عندما يكون الفرد خارج وطنه.كاتب صحفي