بشريّة قراءة التّأريخ العمانيّ: ميلودراما التّاريخ أنموذجا
التّأريخ الإنسانيّ عموما بما في ذلك التّأريخ العمانيّ تجربة بشريّة طويلة العقد في التّأريخ الإنسانيّ، تحوي هذه التّجربة تجارب اختلطت بالأساطير والخرافات، ودخل فيها الصّراعات والأيدلوجيات وأهواء السّلطة والهوّيّات، لهذا التّأريخ لا يقرأ منفصلا عن بشريّة الإنسان، فهو تجربة بشريّة تحوي النّجدين، ليس ملاكا معصوما، ولا شيطانا أسودا بالكليّة.
من هنا كانت دراسة الدّكتور سعود بن عبد الله الزّدجاليّ في كتابه الجديد الصّادر عن دار عرب بعنوان: ميلودراما التّاريخ: سيميائيات البنية السّرديّة والوظيفيّة في النّصوص التّأريحيّة العمانيّة في (456) صفحة من الحجم المتوسط، هذه الدّراسة من الدّراسات الفريدة في التّأريخ العمانيّ الحديث من حيث تفكيك الرّواية التّأريخيّة ونقدها على ضوء المناهج المعاصرة، بعيدا عن المؤلف وانطلاقته وغاياته وانطباعاته؛ لأنّ المجتمع تعوّد على القراءة السّرديّة والاحتفائيّة للتّأريخ، بما في ذلك التّأريخ الإسلامي عموما، فوجود قراءات تفكيكيّة نقديّة ضرورة في ضوء تطور المعرفة الإنسانيّة المعاصرة.
وميلودراما كما جاء في ويكبيديا كلمة يونانيّة الأصل بمعنى الأغنية، ثمّ استخدمت في فرنسا في القرن التّاسع عشر مرتبطة بالحبكة في الأعمال الدّراميّة والرّوائيّة والمسرحيّة المرتبطة بالحوار المشاعريّ والعاطفيّ، وهذا أسقطه الزّدجاليّ على التّأريخ العمانيّ من خلال الحبكة الماورائيّة والميتافيزيقيّة في جذب مشاعر القارئ والمخاطب من قبل المؤرخ أو الفقيه المعنيّ بالتّأريخ؛ لأنّه في نظر المؤلف لا يقرأ الحدث في الماضيّ، ولكن يريد تفسير الواقع والمستقبل من خلال الحدث، مدعما كلامه بالأسطورة والخرافة في أحيان عديدة.
والكتاب غلب عليه منهجيّة البنية اللّغويّة والسّيميائيّة في تفكيك الرّواية التّأريخيّة العمانيّةّ، منطلقة من أربعة أبحاث كوّنت الكتاب، ابتدأها بقراءة تمهيديّة للكتاب، ثمّ أعقبها بمناقشة المصادر التّأريخيّة العمانيّة والغايات الأيدلوجيّة، ثمّ مبحث السّرديات الدّينيّة العجيبة في النّص التّأريخيّ العمانيّ، وأخيرا صورة الإمام في الخطاب التّأريخيّ العمانيّ.
وقد أحسن المؤلف في مبحثه التّمهيديّ الّذي يستحق ذاته أن يكون كتابا مستقلا كمنهج في قراءة التّأريخ ليس العمانيّ فحسب، بل الإنسانيّ عموما، منطلقا من تفكيك النّص وفق مفهومه ومنطوقه الّذي يتضمّن بذاته مسكوتات ومضمرات، حيث الإشكاليّة أنّ القارئ المخاطب البسيط يقف عند ظاهريّة النّص، بينما التّأريخ ظاهرة تأويليّة أكثر منه ظاهراتيّة حرفيّة، فالنّص التّأريخي لم يصل إلينا ظاهراتيّا؛ بل وصل إلينا مؤولا، ومضافا إليه أهواء المؤرخ وغاياته في تأويل النّص ذاته، وإعادت حبكته (ميلودراما)، مع الإضافة من الحدث وحتى لحظة تدوين المؤرخ، واستغلال مساحة المسكوت عنه من خلال حضور الاغتراب الماورائيّ الميتافيزيقيّ المتمثل في اللّامعقول، وحضور الهوّيّة المذهبيّة والدّينيّة، بجانب حضور السّلطة السّياسيّة وغايات المؤرخ والمعنيّ بالشّأن التّأريخيّ.
وكما أنّه لا يمكن فصل الحدث عن واقعه ومرحلة تدوينه مذهبيّا وسياسيّا؛ أيضا لا يمكن فصل التّأريخ عن الذّات المؤرخة؛ لأنّ التّأريخ كما يرى الباحث يدور حول الحدث والذّات المؤرخة واللّغة، فالحدث له نقطة بداية في زمن ما، لكن لم يصل إلينا اليوم وفق تلك النّقطة الإنسانيّة الظّاهراتيّة البسيطة، بل وصل إلينا كما أسلفنا مؤولا ومضخما في دائرتي التّأويل والمسكوت عنه، لهذا الذّات المؤرخة لها دور كبير في تضخم هذا الحدث وتأويله وحبكته من خلال بناء المتصوّر الأسطوريّ كما في الإمامة في التّأريخ العمانيّ، ومن خلال استخدام الخطاب الحجاجيّ، وحبكة (ميلودراما التّأريخ) في ذلك.
لهذا لغة النّص هي النّسق النّهائيّ للنّصّ ذاته الّذي هو "وحدة عضويّة مكتملة له غاياته الأيدلوجيّة المحددة سلفا"، هذه الوحدة تتمازج مع النّصوص التّاريخيّة والدّينيّة في قالبها الأيدلوجيّ الاجتماعيّ، ليرتبط (الحدث والذّات واللّغة) بالحقيقة التّأريخيّة، والخطاب الكليّ المرتبط بالنّصّ ذاته.
ملتفتا الباحث إلى قاعدة النّزاهة مع الحدث التّأريخيّ، وقاعدة النّزاهة "أن يقول المؤرخ ما يعلم صدقه، ويتجنب ما يعلم كذبه"، لكن المؤرخ بطبيعته الدّينيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة يصعب عليه الانفصال عن رغباته ومصالحه وموقعه السّياسيّ والدّينيّ والاجتماعيّ، ليبتعد عن النّزاهة إلى التّقيّة، وأصل التّقيّة أن يقول خلاف ما يعتقد لأسباب سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة، إلا أنّ التّقيّة تظهر عند المؤرخ من خلال إعادة حبكته للحدث التّاريخيّ نقصا أو تأويلا إضافيّا على حقيقة الحدث ذاته.
وإذا جئنا إلى التّأريخ العمانيّ والّذي تمثلت مصادره حسب رأي الباحث من خلال كتب السّير العمانيّة وكتب الأنساب وكتب التّراجم العمانيّة والحوليات التّأريخيّة، إلا أنني أرى أنّ الكتب الفقهيّة العمانيّة مصدر مهم أيضا، لأسباب ثلاثة: الأول أنّ الفقه الإباضيّ المشرقيّ العمانيّ فقه عمليّ في جملته، بدءا من مدوّنة أبي غانم الخراسانيّ في القرن الثّانيّ الهجريّ وحتّى ما بعد منهج الطّالبين للشّقصيّ في القرن الحادي عشر الهجريّ، والسّبب الثّاني: أنّ هذا الفقه العملي ارتبط بالحدث السّياسيّ والاجتماعيّ والدّينيّ، والّذي أعاد صياغته المؤرخ العماني في حبكة لها تأويلها وواقعها، ولكن بالرّجوع إلى المصدر الفقهيّ نرجع إلى حقيقة الحدث ذاته، خصوصا لمّا يرتبط بصراعات سياسيّة وكلاميّة، والسّبب الثّالث تضمن هذا الفقه العديد من المسكوت عنه في الجانب الثّقافيّ والاجتماعي في حياة النّاس في المجتمع العمانيّ لأكثر من ألف عام.
هذا التّأريخ العمانيّ يراه الباحث ارتبط بصورة كبيرة بالإمامة، وهذا طبيعيّ – في نظريّ - لأنّ الفكر الإباضيّ في ذاته فكر مرتبط بالسّياسة منذ النّشأة الأولى، إلا أنّ هذا الجانب السّياسيّ ارتبط بالشّأن الكلاميّ واللّاهوتيّ، فإذا دخل اللّاهوت في السّياسة ضاقت، ولهذا نفهم كلام الباحث من خلال ضربه لأمثلة من ذلك تأثيم الآخر والمبالغة في الولاية والبراءة، والتّعامل مع المختلف وفق رواية الافتراق، ونظرّيّة الشّراة ضدّ السّلطة، وتحويل الجهاد داخل المجتمع المسلم، وحرفيّة الحسبة أو المطوّعة في فكرتها الأولى كما في الدّولة العباسيّة، وتصنيف المجتمع إلى دار عدل أو دار بغي مثلا.
ومع هذا الضّيق الماورائيّ والكلاميّ لازمه ضيق حركيّ وتطوريّ، مستشهدا الباحث هنا بكلام خالد العزرّيّ [معاصر] في رسالته "فكر السّالميّ حول نظام الإمامة بعمان" حول العزلة الدّينيّة في التّأريخ العمانيّ جعلته "يفكر بعقليّة القرون الوسطى"، وما ذكره روبرت جيران لاندن [معاصر] في كتابه "عمان منذ 1856م مسيرا ومصيرا" أنّ سبب انهيار الحكم السّياسيّ الدّينيّ العمانيّ يعود إلى سببين: "الهوّيّة الدّينيّة المذهبيّة المغرقة في الانعزال"، ويرى الزّدجاليّ أنّ سبب الانعزال انبثاقه من فقه الافتراق أو الفقه الصّراطيّ كما عند عبد الجبار الرّفاعيّ [معاصر]، أي انغلاق لاهوت الرّحمة، لكن شخصيّا أرى هذا بعيدا، فانغلاق لاهوت الرّحمة، والانغماس الميتفافيزيقيّ فيه، والابتعاد عن الجانب النّاسوتيّ حالة دينيّة لازمت ليست المذاهب الإسلاميّة فحسب بما فيها الإباضيّة، بل لازمت المجتمع الدّينيّ حتّى غير الإسلاميّ عموما، وسببه التّعامل الهوّيّاتيّ مع الآخر من جهة، ثمّ ضيق هذه الهوّيّات إلى هوّيّة مذهبيّة حاكمة على الآخر، فيغلب التّفكير الجمعيّ على التّفكير الفردانيّ من جهة، كما يغلب الاغتراب الميتافيزيقيّ على الاغتراب الإنسانيّ من جهة ثانيّة، ولهذا النّص الّذي ذكره الباحث عن روبرت لاندن هو الأقرب في تفسير هذه الحالة، ويقترب من تأويل العزريّ أيضا، حيث يرى روبرت "ولعل من الأسباب الّتي عجلت بانهيار حكم الإمامة هي اعتقاد أصحابها بأنّهم يستطيعون أن يحكموا مجتمعا في القرن التّاسع عشر بمفاهيم الحكم الإسلاميّ للقرن السّابع للميلاد".
والسّبب الثّانيّ الّذي ذكرة روبرت وهو الفشل الاقتصاديّ والسّياسة الخارجيّة وهذا مرتبط بالسّبب الأول، وإن اختلفت مصاديقه في بعض الأحيان.
عموما هذه القراءة الفارقة الّتي قدّمها الدّكتور سعود الزّدجاليّ أراها بداية نقديّة ذات عمق فلسفيّ في التّفكير العمانيّ في تعامله مع التّأريخ العمانيّ خصوصا، وهي ذاتها قابلة للنّقد والتّفكيك، وقد يعارضه العديد في الإسقاطات المعاصرة على أمّة لها سياقاتها الزّمنيّة والمعرفيّة لا تختلف كثيرا عن سياقات الأمم الأخرى، لكن لا يمكن معارضته في ضرورة استخدام المناهج المعرفيّة المعاصرة في قراءة وتفكيك النّصوص التّأريخيّة، لتخرج من سياقاتها الماضويّة الاحتفائيّة والظّاهراتيّة، إلى القراءة السّننيّة والتّفكيكيّة، والّتي لا تنفصل عن جهات الإمكان والوجوب والاستحالة من جهة، وعن التّأويلات التّأريخيّة، والبحث في دائرة المسكوت عنه، وهي الدّائرة الأوسع، لهذا لا يمكن قراءة التّأريخ بعيدا عن هذه المناهج العلميّة والآلات المعرفيّة المعاصرة، كما لا يمكن قراءته بعيدا عن سياقاته الزّمكانيّة، وأبعاده السّياسيّة والمجتمعيّة والدّينيّة أي الهوّيّة.