بحثًا عن الحكمة

16 أبريل 2022
16 أبريل 2022

لعل أحد المنافع الرمزية التي جاءت بها جائحة كورونا «كوفيد-19» هو إعادة الاعتبار للثقة الجزئية بالعلم، بعد أن تدهورت هذه الثقة وخاصة في العقدين الفائتين وتباينت عبر الأقاليم العالمية بفعل عدة موجبات لعل أهمها تعطل التنمية في أجزاء كثيرة من العالم بفعل الصراعات السياسية واهتزاز الاقتصادات العالمية بفعل الأزمات المتوالية بالإضافة إلى اضطراب الخطاب السياسي وإعادة الانتشاء للخطاب الشعبوي في أجزاء متفرقة من العالم. ومما يدلل على تحسن مستويات الثقة بالعلم والعلماء ما كشف عنه برنامج Wellcome Global Monitor 2020: Covid-19 الذي عني بتقصي تأثيرات جائحة كورونا «كوفيد-19» على أنماط مختلفة من معيش الناس وتصوراتهم أثناء الجائحة حول العالم، حيث تكشف نتائج البرنامج عن أن ثقة الناس في العلم والعلماء قد زادت على الصعيد العالمي، حيث ارتفعت نسبة أولئك الذين قالوا إنهم يثقون بالعلماء «كثيرًا» من 34٪ في عام 2018 إلى 43٪ بنهاية عام 2020. وبحسب البرنامج فإن ارتفاع الثقة لم يكن واضحًا في كل مكان، حيث كانت هناك اختلافات إقليمية كبيرة. في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تراجعت الثقة في العلوم بين عامي 2018 و 2020، حيث أعرب 19٪ فقط عن مستوى عالٍ من الثقة في العلماء، وهو أدنى مستوى في العالم. يمكن مقارنة ذلك بنسبة 62٪ في أستراليا ونيوزيلندا، حيث كانت الثقة هي الأعلى.

وبرغم هذا التحسن إلا أنه لا يمكن أن نغفل أن جزءًا لا يتجزأ من مكون المجتمعات حول العالم لا يزال فاقدًا الثقة بالعلم والعلماء/ الخبراء. كما أنه لا يمكن ظرفيًا الاستناد إلى نتائج مقاسة في أوقات أزمات، فالأزمات بحسب طبيعتها تدفع الناس للثقة والالتجاء إلى المكون الذي يعتقدون أنه سيوفر لهم الاحتياج، وشبكة الأمان، والحماية، والوقاية من تلك الأزمة أو العارضة. وبالتالي يمكننا القول إن مشهد حضور العلم والعلماء والخبراء تكتنفه اليوم الكثير من المآزق والمهددات التي تتطلب دفعًا وطنيًا استراتيجيًا للحفاظ على مكانته وتعزيز مصداقيته وتأكيد موصوليته وبناء شبكات الثقة بين منتجه ومنتج الجمهور العام عبر وسائل مبتكرة وليست تقليدية.

وإذا ما حاولنا السؤال عن الأسباب التي تدفع بهذا المنتج نحو المزيد من التهديدات قد يكون من السهل تبيان الأسباب الداخلية لبيئة العلم ومنها الإغراق في التخصصية واللغة الجامدة وانفصال منتج العلم عن فهم العموم وكذلك تضاؤل قوة الجماعة العلمية في بعض التخصصات وصعود خطاب العالم الواحد عوضًا عن تفاوت مدى قدرة الإعلام العلمي على الوصول إلى الناس والتأثير فيهم والتغيير في فهومهم إزاء القضايا والأحداث والمتغيرات والإشكالات الجارية، الأمر الآخر هو مدى قدرة العلماء أنفسهم على التنبؤ والاستشراف للتحولات والأزمات والكوارث والأحداث وهو ما يجعلهم في مأزق دائم مع السياسي من ناحية ومع الجمهور العام من ناحية أخرى.

وقد لا يكون الأمر متصلًا بالقدرة على التنبؤ ذاتها أو التحذير المسبق ولكن مدى المساحة التي يشغلها ذلك التنبؤ أو التحذير ومدى تبنيه والثقة به من خلال السياق السياسي ومدى وصوله على الجانب الآخر للجمهور واستدراكهم له وتعاملهم معه على محمل الجد.

لكن بالإضافة إلى كل تلك الأسباب لا يمكننا أن نغفل صعود ما يسميه جيمس سوروفيكي بـ «حكمة الحشود» وهي الطريقة التي يشكل بها رأي ومعتقد الجمهور الاتجاهات العامة للمستقبل سواء في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمعات المدنية وسواها. يمكننا أن ننظر اليوم في بعض ممارساتنا التي قد تكون مدفوعة بحكمة الحشد فقد لا يذهب البعض إلى مستشفى تخصصي أو طبيب بعينه دون أن يكون قد استشار جمعًا ممن حوله ممن ترددوا على ذلك المستشفى أو الطبيب، وقد لا نذهب لقضاء عطلة في مكان ما دون قراءة عدد هائل من التعليقات والتوصيات والمراجعات التي تجعل لدينا مزيدًا من الطمأنينة للتوجه له وقس عليه من القرارات أو المواقف التي يمكن أن نقبل عليها بعد أن نكون قد تعرضنا لحكمة الحشد وأكسبتنا الطمأنينة إزاءها.

يبقى السؤال: هل حكمة الحشود سيئة بالمطلق وهل تتعارض مع حكمة الخبراء؟ والواقع أن سوروفيكي قد حدد عددًا من المعايير للتفريق بين حكمة الحشود العقلانية وحكمة الحشود غير العقلانية وهي: «مدى وجود تنوع في الآراء مهما كان هناك تباين في المعلومات والتفسيرات التي يبني على ضوئها الشخص رأيه، وكذلك عدم تأثر طرح رأي الفرد برأي الجماعة ومدى القدرة على التوظيف الجيد للمعرفة الشعبية ومدى وجود آلية واضحة لتحويل تلك الآراء المتعددة والمتنوعة لقرارات جماعية ومدى اعتمادية الفرد على الجماعة في الرأي والقرار». ومتى ما وجدت وتحققت تلك المعايير بحسب سوروفيكي فإنه يمكن أن تكون حكمة الحشود (أداة) معينة على اتخاذ القرار أو تحديد أو تصويب الاتجاه أو التعهيد الجماعي.

صعدت حكمة الحشود في جدليتها مع حكمة الخبراء بفعل تفجر أدوات الصناعة الإعلامية وبفعل ذاتية المنصات وما قابلها من وسائل مبتكرة لتقديم الذات وبفعل تلاشي الحدود بين الذاتية والجماعية في الآراء والمواقف والتوجهات على شبكات الإنترنت وتحديدًا مواقع التواصل الاجتماعي إلا أن كل ذلك لا يجب أن يجعلنا مستسلمين بالمطلق لحكمة الحشود، فهناك دور أكبر يقع على عاتق مؤسسات التدريس الأكاديمي ومؤسسات الإعلام لإعادة بناء صورة الخبير «العالم» المتخصص وتقديمه في قالب يستطيع من خلاله إيصال منتجه والتأثير في جمهوره وتصحيح المعتقدات العلمية والممارسات التي تتطلب التصحيح وتقديم التنوير بشأن ما يمكن أن يكون صوابنا في تدبير الشأن العام وتسيير الاقتصاد وتحريك عجلة الثقافة ودفع الابتكار والوصول إلى المجتمع السليم والصحي من الناحية الصحية وغيرها من المساحات التي تحتاج إلى التأصيل العلمي والخبرة المتخصصة.

مبارك الحمداني - مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان