بإيجابية عواطفنا نتقدم

13 أغسطس 2022
13 أغسطس 2022

لقد «حطَّم العالم الكثير من الأرقام القياسية في عام 2021؛ حيث بلغت أرباح الشركات وتمويل رأس المال الاستثماري وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون ودرجة حرارة المحيطات مستويات قياسية، لكن هناك رقمًا قياسيًا آخر حطَّمه العالم ولم يتصدر عناوين الصُحف بعد...». هكذا يبدأ تقرير (عواطف العالم 2022)، الصادر عن مؤسسة (Gallup) في واشنطن؛ ففي حين ركَّز العالم على الحدَّ أو التخفيف من آثار تلك التحديات التي واجهها أثناء «كوفيد-19»، والتي ظهرت في الأصل قبل تفشي الجائحة، فإن هذا التقرير يلفت نظرنا إلى تحدٍ إنساني مهم، كان له تأثير مباشر على أنماط حياة المجتمعات، ألا وهو (مشاعر الناس وعواطفهم)؛ فليس من المفاجئ أن يكون هذا التحدي من بين تلك التحديات الكبرى التي واجهت المجتمعات في ظل التداعيات المتسارعة والمتصاعدة للأوضاع الاقتصادية والصحية والبيئية والجيوسياسية التي يرزح تحت وطأتها العالم منذ أكثر من ثلاثة أعوام؛ حيث يعاني من (الحروب) و(التضخم)، و(الأوبئة).

وإذا كانت تقارير عالمية قد انشغلت بقياس مؤشرات (السعادة) في دول العالم، فإن هذا التقرير يحدثنا عن (التعاسة)، وأولئك الناس (غير السعداء) في العالم، الذين يعانون من الفقر والمجتمعات السيئة، والجوع والوحدة، وندرة العمل الجيد؛ حيث يستعرض مساهمة الفقر في المعاناة العالمية ومدى تأثيره في مشاعر الناس وعواطفهم، إلاَّ أنه يعود ليخبرنا أن الفقر في حد ذاته ليس سببًا كافيًا للشعور بـ(عدم السعادة)؛ فانعدام الأمن الغذائي الذي بلغ (30%) على مستوى العالم، يُعد من تلك الأسباب الكفيلة بهذا الشعور، غير أنه -أي التقرير- يفرد أهمية كبرى لـ(الشعور بالوحدة) باعتباره أحد التحديات التي تواجه الناس في المجتمعات على مستوى العالم؛ حيث وجدت (Gallup) بحسب استطلاعها أن «330 مليون بالغ يمضون أسبوعين على الأقل دون التحدث إلى صديق واحد أو أحد أفراد الأسرة، ومجرد أن بعض الناس لديهم أصدقاء، فهذا لا يعني أن لديهم أصدقاء جيدين، فخُمس من جميع البالغين ليس لديهم شخص واحد يمكنهم الاعتماد عليه للحصول على مساعدة».

إن الشعور بالوحدة باعتباره تحديا قد زادته حِدته بسبب الانفتاح التقني وتسارعه، فالكثير من الناس لجأ إلى وسائل التواصل الاجتماعي من أجل الحصول على (الرفقة)، غير أن ذلك قد تسبَّب في الكثير من الإشكالات والتحديات على المستوى العاطفي، لما تمثله هذه الوسائل من مساحات واسعة لبث المشاعر السلبية وتعميق الشعور بالوحدة وبالتالي إلى الغضب والعنف، ولهذا فإنه من بين التحديات التي تزداد حدة كلما ازداد توجُّه المجتمع نحو تلك الوسائل.

ومن بين تلك التحديات التي تواجه (غير السعداء) هو عدم الحصول على (العمل الجيد)؛ غير أن التقرير يكشف لنا أن أولئك الأشخاص (البائسين في عملهم) أكثر «عرضة إحصائيًا لتجربة مشاعر سلبية من شخص ليس لديه عمل على الإطلاق»، الأمر الذي يعني أنه ليس العمل من حيث نوعه هو السبب في هذه المشاعر وإنما شعور المرء نحو ما يعمله، ومدى تقبله له.

قد لا يهتم البعض بالعواطف باعتبارها ثانوية أو تؤدي إلى معانٍ منافية للعقلانية، غير أنها تمثل اليوم حاجة ملحة في ظل التغيرات التقنية المتسارعة التي يعيشها العالم، وتلك الضغوط التي تسببها وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تبث المشاعر السلبية وتؤثر عاطفيا على أفراد المجتمع، وبالتالي تتدخَّل في اتخاذ قرارات قد تكون غير موفقة أو (مؤسفة) -بتعبير التقرير-، خاصة عند تضخيمها وترويجها من أجل التأثير المباشر المقصود لأهداف بعينها، التي قد تتسبب في زيادة التحديات الاجتماعية والاضطرابات في المجتمع.

يستعرض التقرير رأي (جورج وارد) العالم السلوكي في معهد (ماساتشوستس للتكنولوجيا)، للتأكيد على مدى تأثير العواطف على القرارات؛ حيث يقول صراحة (إن عواطفنا توجِّه اتخاذ قراراتنا في صندوق الاقتراع، فاستنادًا إلى عقود من البحث يُعتقد أنه يمكن التنبؤ بنتائج الانتخابات وزيادة مشاعر الشعبوية من خلال النظر في الحالة المزاجية للجمهور». إنها القوة التي يُتقن السياسيون توجيهها حسب أهدافهم، ولهذا فإن قدرة هذه القوة الكامنة في نفوس الناس يمكن أن تبني المجتمعات أو تُسهم في هدمها من خلال ما يشهده العالم من (تصاعد العنف والكراهية والرديكالية المتزايدة)، الذي يثير جدلا عالميا في ظل ما ترسِّخه وسائل التواصل الاجتماعي، وما تقدمه من دعم كبير ومتزايد لشحن العواطف السلبية وشحذها.

وفي حين يصف التقرير عام (2020) بـ(أسوأ عام في التاريخ الحديث) لما سبَّبه من كوارث اجتماعية واقتصادية وبيئية، إلاَّ أنه لا يبدو متفائلا بما حدث للعالم في العامين التاليين، فقد زادت التوترات والضغوطات النفسية؛ فبحسب الأسئلة التي وجهتها المؤسسة للبالغين في (122) دولة ومنطقة في العالم فإن تجارب التوتر والقلق والحزن ارتفعت إلى مستويات (قياسية أكثر مما كانت عليه في 2020)؛ حيث حققت (أرقاما قياسية جديدة)، فقد «ارتفع القلق بنقطتين، فيما زاد التوتر والحزن نقطة واحدة، كما انتعشت النسبة المئوية للبالغين الذين عانوا من الألم في جميع أنحاء العالم بنقطتين، للتوافق أكثر مع المستويات السابقة» -حسب ما ورد في التقرير.

وعلى الرغم مما يثيره التقرير من مخاوف حيال ما يمر به العالم من توتر عاطفي فإنه يدعو إلى (الإيجابية) باعتبارها الحل السحري لتلك التحديات التي تواجه العالم؛ فبالإيجابية يمكن للناس والحكومات اتخاذ القرارات الصحيحة المناسبة لظروف المجتمعات وقدراتها الإنتاجية، إضافة إلى ما تمثله (التجارب الإيجابية) من دوافع حقيقية نحو العمل الجيد والتواصل الفاعل مع الآخر. إنها الدافع الحقيقي للحياة السعيدة الداعمة للعطاء والمحبة والسلام.

لقد استعرضت مجلة (PLOS One العلمية)، في دراسة لها بعنوان (تنظيم العواطف والمشاعر أثناء جائحة «كوفيد-19»)، تجربة ألمانيا في قياس (الكفاءة الذاتية للأزمات والقيود المحسوسة) التي تُنبِئ عن تلك التغييرات العاطفية للناس أثناء الجائحة، من أجل (تطبيق استراتيجية تنظيم العواطف)، التي استهدفت قياس ما أسمته بـمؤشر (الاستمتاع باللحظة)، وهو مؤشر يقيس متغيرات الشعور بالسعادة، بُغية تنفيذ دراسة تُقدم «وجهات نظر بحثية مستقبلية لتقييم دور تنظيم المشاعر الممتعة في ظل الظروف الصعبة» -حسب ما ورد في الدراسة-، وما تمثله من أهمية في التقييمات المعرفية وإدارة المعلومات، وبالتالي اتخاذ القرارات.

تستند الدراسة إلى ما أظهرته الأدبيات من آثار سلبية لـ«كوفي-19» على (الرفاهية الجسدية والنفسية) للناس، مما كشف عن «زيادة مقلقة في الاكتئاب واضطرابات القلق، والضيق العام واضطرابات النوم، فضلًا عن تدهور الأعراض الموجودة مسبقًا لاضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب واضطرابات الأكل»، لذا فإن هذه التأثيرات تمثل تحديات أساسية للحالات العاطفية سواء كانت إيجابية أو سلبية، وبناء على نتائج الاستطلاع تعرض الدراسة ما يُطلق عليه بـ«النموذج الديناميكي للتأثير» (DMA)، الذي يشير إلى الكفاءة التي يمتلكها الفرد لمعالجة التأثيرات السلبية، والقدرة على زيادة المشاعر الإيجابية نحو الأحداث المتغيرة التي أظهرتها الجائحة.

إن النموذج الديناميكي للتأثير لا يتعلق فقط بالمشاعر الإيجابية الذاتية وحسب بل أيضا بمدى وعي الأفراد بما يجري حولهم من أحداث سلبية، وقدرتهم على فهم أهمية الإيجابية في التغلب على آثار تلك الأحداث، ولهذا فإن تلك المجتمعات التي تمتلك وعيًا وفهمًا للمتغيرات السلبية بشكل خاص، هي وحدها القادرة على الاحتفاظ بالإيجابية والتفاؤل والعمل بمحبة. وهي وحدها القادرة على الاستدامة؛ ذلك لأن الإيجابية تحصِّن الأفراد من تَقبُّل المشاعر السلبية، والأفكار الهدَّامة. إنها طوق النجاة الذي يجعل المجتمعات مسالمة، تعمل من أجل بناء وطنها لا هدمه، وهي التي تُحجِّم من التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي، وتُقلِّل من التحديات التي يواجهها الأفراد، في ظل توَّفر تلك (الكفاءة الذاتية)، التي تجعل المجتمع أكثر إقبالا على الحياة.

عليه فإن المجتمعات اليوم بعد معاناة «كوفيد-19» وتأثيراتها، وما سبقها من تحديات، تحتاج إلى فهم تلك المتغيرات التي أثَّرت على أنماط حياتها النفسية، فأحدثت العديد من الإشكالات التي تستدعي وعيا من الأفراد والحكومات لأهمية (الإيجابية) وقياس القدرة على (تنظيم العواطف) التي يُنظر إليها باعتبارها أحد أهم تحديات العصر الحديث. إن قدرتنا على فهم عواطفنا واستيعاب ما حولنا من تأثيرات سلبية، يجعلنا نعي إمكاناتنا المعرفية ومشاعرنا الإيجابية نحو أنفسنا ومجتمعنا ووطننا، فهذه القدرة كفيلة بالرد على تلك التأثيرات كلها التي قد تجرنا إلى هدم مكتسباتنا الذاتية والوطنية.

فلنكن إيجابيين في النظر إلى أنفسنا ومن حولنا وما حولنا، ولتكن عواطفنا دافعة للعمل الوطني البَنَّاء، الذي يجعل (المواطنة) شعارًا لتحقيق أهداف المجتمع.