انتخاب
نقتبس عنوان هذه المقالة من التطبيق التفاعلي الذي وضعته وزارة الداخلية؛ لأغراض التفاعل مع الناخبين والمرشحين في الموسم الانتخابي، سواء من خلال الساحات الحوارية، أو عبر «صفحتي» التي أتاحت للمرشحين استخدامها كمنصة لطرح رؤاهم والتفاعل المباشر مع مرشحيهم في الولايات. من هنا لابد من الإشادة بالجهد المحمود الذي بذلته وزارة الداخلية انطلاقًا من انتخابات أعضاء المجالس البلدية الماضية، في سبيل «رقمنة» الموسم الانتخابي - إن صحت التسمية - فهذه المنصات في تقديرنا ستتمكن مع مرور التجربة من إيجاد جسر أوثق من الاتصال والتواصل بين الناخبين والمرشحين، وفي تهيئة بيئة مواتية لتطوير وتنقيح الأفكار ورصد التطلعات، وفي ملامسة شرائح أكبر من المجتمع، كل ذلك توازيًا مع الحراك الميداني للمرشحين في حملاتهم. شاركت في أحد الحوارات المرئية على الساحة الحوارية المعدة لذلك وتابعت بعض الحوارات المسجلة، وفي الحقيقة هي - بالنسبة لي كمهتم برصد الموسم الانتخابي - تشكل مادة ثرية للدرس والقراءة والتحليل. ذلك أنها تمزج بين رؤى برلمانية ورؤى قانونية وقطاعية ورؤى أكاديمية وبحثية بالإضافة إلى رؤى من حقل المجالس الاستشارية الطلابية.
نحن لا نتحدث هنا عن السياق العام الذي يجري فيه الموسم الانتخابي؛ فكل فترة انتخابية تؤطرها ظروفها الاقتصادية والاجتماعية التي تلقي بظلالها على توقعات الأفراد سواء كان من المؤسسات المنتخبة، أو من مؤسسات الدولة عمومًا. ولكن نتحدث عن أن هذه الانتقالات الرقمية جسرت الكثير من التحديات في تقديرنا أمام سلوك الانتخاب؛ سواء كان فيما يتعلق بعامل التنقل إلى المراكز الانتخابية وكلفة الوقت والجهد، أو فيما يتعلق بتحييد كلفة الإجازة الرسمية وما يصحبها من تأثر بعض المؤسسات خدمات ومراجعين. كما أن فهم دوافع الأفراد نحو «الانتخاب» ومعرفة إمكانية مشاركتهم في انتخابات ما من عدمه، ومعرفة نوعية العوامل التي سيقررون على أساسها خيارهم الانتخابي تحتكم إلى عوامل كثيرة تحددها، منها الخبرات السابقة للناخب في عملية التصويت، وتواصل الأعضاء مع ناخبيهم أثناء فترة العضوية، والمكاسب الملموسة والمباشرة للعمل البرلماني التي يمكن أن يلمسها الفرد في محيط معيشه المباشر، وتأثير الإعلام البرلماني وقوته، بالإضافة إلى الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع، وتوسيع دائرة المعرفة بالمرشحين والقدرة على الوصول إلى أفكارهم، عوضًا عن وجود أسماء جديدة قادرة أن تغير الأفكار النمطية وتتبنى طرحًا تنمويًا جديدًا ورؤية جديدة للقضايا الراهنة، كما أن هناك عوامل مرتبطة بالسياق القبلي والمناطقي، كلها عوامل تتحكم في توجيه السلوك الانتخابي للناخبين. كما أن جزءا كبيرا من هذا السلوك يتأثر مسبقًا بإمكانية الوصول لمراكز الانتخاب، وعدم وجود التزامات مثل العمل الرسمي تقيده من الوصول، إضافة إلى قرب مراكز التصويت (وفي تقديرنا فإن هذه العوامل قد انتفت برقمنة التصويت). إذن إذا ما أردنا فهم وتوقع سلوك الناخبين واتجاهاتهم فلابد في تقديرنا من النظر إلى كافة العوامل السابقة، وما قد يطرأ أيضًا من عوامل إلى قرب موعد التصويت، وترجيح تلك العوامل وفق مدى قوة تأثيرها على سلوك الناخب، واختلافها من محافظة لأخرى، ومن ولاية إلى أخرى. وهو ما يجعلنا - كباحثين - أقرب إلى الصورة التي نحلل على ضوئها مواسم الانتخاب.
سؤال مهم آخر حول طبيعة المداولات الراهنة في الموسم الانتخابي؛ في كل موسم انتخابي تصعد قضايا معينة، وقد تتراجع قضايا أخرى من دائرة الضوء. وذلك يرتبط أيضًا بالعوامل سالفة الذكر. في هذا الموسم - حسب سعة رصدنا - نرى هنالك تركيزًا على ثلاثة قضايا محورية: أولها التشديد على دور مجلس الشورى في دورة التشريع، وثانيها: النقاش حول حدود الاختصاصات بين المجالس البلدية وأعمال المحافظات وبين مجلس الشورى - وهو في الواقع حديث عن الممارسات أكثر من الاختصاصات. أما القضية الثالثة: فهي في الأدوار المرجوة من المجلس ما بعد صدور نظم وتشريعات الحماية الاجتماعية. في المقابل؛ هناك قضايا سادت في مواسم انتخابية سابقة ولكننا لا نجد حضورا كبيرا نسبيًا لها في مداولات هذا الموسم، ومنها قضية تمثيل المرأة في المجلس. في المجمل فإن المرحلة الراهنة تتطلب تعزيزًا للثقة بين المجلس والمجتمع. وهذه مسؤولية مشتركة أطرافها الأعضاء، وأمانة المجلس، ومنظومة مؤسسات الدولة المرتبطة بعمل المجلس.
على الجانب الآخر نعتقد أن هناك فرصًا لإجراء تحول منهجي في آلية عمل المجلس (في ضوء النص التشريعي الناظم له)، منها تطوير منهجيات علمية لقياس أثر التشريع. بحلول الفترتين القادمتين من عمر المجلس سيكون أثر الكثير من التشريعات التي صدرت هذه الفترة قد اتضح في هياكل المؤسسات والاقتصاد والمجتمع، وهو ما يمثل فرصة اشتغال حقيقي للمجلس على هذه الجزئية؛ لمساندة الحكومة في التدخلات والتحسينات ومضاعفة الآثار الإيجابية لبعض التشريعات أو المساءلة إزاء جزئيات بعضها. طورت الكثير من الدول عبر مؤسسات مختلفة منها البرلمانات مقاييس منهجية ولجانا متخصصة لهذا الغرض، تشتغل وفق إطار محكم لقياس أثر التشريعات. وهنا لا نقصد الدراسات الدورية التي يمكن أن تقوم بها المجالس، وإنما الاستناد إلى التراث المنهجي المتخصص في هذه المسألة. البعد الآخر الذي يمكن للمجلس أن يضيفه إلى منهجية عمله هو «استشراف المستقبل». في البرلمان الفنلندي على سبيل المثال هناك لجنة برلمانية تعنى بهذه المسألة. يمكن إمداد الأمانة العامة بالمختصين والخبراء في هذا المجال بما يساعد في تطوير سيناريوهات واضحة للعمل التنموي؛ وسيمكّن ذلك من اقتراح التشريعات الملاءمة للتعامل مع متغيرات المستقبل، والتحقق من التشريعات الحالية فيما إذا كانت مرنة بما يلزم للتعامل مع تلك المتغيرات. سيوفر هذا التحول المنهجي جودة في مخرجات العمل البرلماني، كما سيمكن من أن تكون الأدوات البرلمانية المعمول بها مبنية على معطيات استباقية، وإسهام في الجانب الآخر في تدعيم مسارات العمل المستقبلي لمؤسسات الدولة.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان