اليمن الذي نأمل أن يعود سعيدًا!!!
يعد اليمن المهد الأول للعروبة لغة وثقافة، ومن اليمن خرجت الجيوش الإسلامية في كل الفتوحات من المشرق إلى بلاد الأندلس غربًا، ومن عُمان واليمن انتشرت الحضارة العربية والإسلامية في شرق إفريقيا ودخل اليمنيون والعمانيون بلادًا لم تكن تعرف الأديان فشيدوا المدن وأقاموا مجتمعات مستقرة منذ العصر الأول للإسلام مرورًا بعصر اليعاربة وصولًا إلى حكم أسرة البوسعيد. أما عن عُمان فالحديث عنها يطول لكن اليمن الذي بدأت منه العروبة ويدين له العرب من المشرق إلى المغرب بفضل دوره في نشر الإسلام وانتشار لغته، وظهور أجيال متعاقبة من علمائه وفقهائه وشعرائه، وظل دائمًا عصيًا على أعدائه. وهو تاريخ سجلته الكتب المخطوطة والمطبوعة في كل بلاد العرب والمسلمين، وبحكم زياراتي المتعددة إلى اليمن ولقاءاتي بكثير من علمائه وشعرائه فإنني أستطيع القول بتجرد لم أجد شعبًا أكثر طيبة وكرمًا واعتزازًا بعروبته وتمسكًا بإسلامه بقدر ما رأيته في اليمن وأهله. يبهرك اليمن بعمارته الرائعة لدرجة أنني كلما ذهبت إلى صنعاء أتجول في شوارعها وأزقتها متعجبًا من عبقرية بناياتها، وأتلمس جدرانها، وأقف منبهرًا أمام منمنمات زخارفها وهي مبانٍ قد تجاوزت الزمن تشتم من جدرانها عبق التاريخ، ورغم حالة العوز والفقر لكن الناس راضون مبتسمون دائمًا، وبمجرد أن يتعرفوا عليك كزائر لبلدهم يشعروك بسعادتهم الغامرة، مرحبين بك، مرددين: (حللت أهلًا ونزلت سهلاً)، لم أتألم لما أصيب به الكثير من أقطارنا العربية بقدر ألمي لما أصاب اليمن الذي خرج منه الشعراء والأدباء والروائيون والفقهاء، فقد ملأوا حياتنا بكتاباتهم حبًا وبهجة، لذا كانت مرارتنا وحسرتنا على وطن كان سعيدًا، أتذكر في آخر لقاء لي مع الشاعر والمثقف المرحوم عبدالعزيز المقالح (1937-2022) وقد شعرت بأن الرجل يفيض مرارة وألمًا بسبب ما أصاب وطنه من أزمة كان قوامها العقل الذي سرقه أنصار المذاهب الإسلامية المتشددة، والجامعة التي كان أحد رؤسائها وكان حريصًا على تعظيم العقل والفكر فإذا به بعد أن تركها تتحول إلى مدرسة تخرج الآلاف من المعتصمين بالنص على حساب العقل، وكانت مقولته الأخيرة لي: «لدينا أزمة اقتصادية نعم!، وأزمة فقر نعم!، لكن الأخطر من هذا كله هو شيوع فكر المتشددين الذين لا يفهمون شيئًا من مقاصد الشريعة، وقد انتشرت أفكارهم في المجتمع انتشار النار في الهشيم». لعل ما قاله الدكتور المقالح لم يختلف عما قاله الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني (1929-1999م) لكن الأخير عبّر عن أزمة اليمن شعرًا وجاءت مجمل قصائده بمثابة صرخات مدوية تردد صداها ليس في اليمن فقط وإنما في كل أنحاء العالم العربي، ومما قاله عن مآسي اليمن واليمنيين:
مواطن بلا وطن... لأنّه من اليمن
تباع أرض شعبه... وتشترى بلا ثمن
يبكي إذا سألته... من أين أنت؟.. أنت من؟
لأنّه من لا هنا... أو من مزائد العلن.
لقد انتهى مصير اليمن بعد أن أصبح مقسمًا إلى يمنين وربما ثلاثة، والأخطر هو انقسام الناس شيعًا وأحزابًا بعد أن سيطر فريق على الشمال وآخر على الجنوب وراحت دول إقليمية تدعم كل فريق على حساب الآخر بينما الناس يموتون على قارعة الطريق، والمشردون بمئات الألوف والمهجرون إلى خارج وطنهم بالملايين والعرب بجامعتهم العربية صامتون عاجزون، بل ولعل بعضهم يناصرون فريقًا ضد الآخر، بينما راحت الهوة تتسع بين الفريقين المتقاتلين.
أتذكر أنني التقيت برئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيد بن دغر(الذي تربطني به علاقة وثيقة) في القاهرة عام 2016م حينما كان رئيسًا للوزراء، أثناء إجراء المفاوضات بين الفريقين اليمنيين في الكويت، وكان من المقترح أن تُجرى المفاوضات في مسقط نظرًا لأن عُمان كانت في مقدمة الدول المعنية بالحل السلمي، ولكن القوى الضالعة في الأزمة قد اختارت الكويت، وقد صارحت صديقي بالقول: «إذا فشلت المفاوضات أنصحك يا صديقي بالاستقالة حتى لا تتحمل دماء اليمنيين»، لكنه أجابني: «نحن وسط محيط متلاطم من الأمواج الهائجة، والخروج منه يعني الهروب من المسؤولية»، وما توقعته قد حدث فقد راح الصراع يزداد عنفًا وضراوة بعد أن فشلت المفاوضات، وتحولت العاصمة صنعاء ومعظم المدن اليمنية إلى رماد والناس ما بين قتلى وجرحى تحت الأنقاض.
دائمًا ما كنت أُذكر أصدقائي من اليمنيين بالحرب بين الإمامة والجمهورية خلال حقبة الستينات من القرن الماضي وهي الأزمة التي دخلت فيها مصر طرفًا مناصرًا للجمهورية ودفعت ثمنًا باهظًا من دماء أبنائها وثرواتها، لعلها كانت أحد أسباب هزيمة يونيو 1967م حينما كان الجيش المصري منشغلا في حرب اليمن في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تعد العدة لخوض حرب حققت فيها نصرًا ساحقًا تركت آثارها ليس على المصريين فقط وإنما على العرب وفي مقدمتهم القضية الفلسطينية نفسها.
كل الحروب التي كان الدين والمذهبية في مقدمة أسبابها هي حروب لا يمكن أن يقضي فيها فريق على الآخر ولا يجوز لعاقل القول بأنه يدافع عن الإسلام ولا يستقيم منطق العصر بقيام دولة ذات أيديولوجية دينية تحت أي مسمى فالأوطان تُبنى بسواعد وعقول أبنائها ولا دخل للدين في الاقتصاد أو الإدارة أو العلم بل يكمن الدين حيث تكمن المصالح التي تستهدف إقامة المجتمعات وفق قواعد من العدالة التي تحكمها إجراءات تشريعية من خَلق الإنسان وإبداعاته وفق رأي الخبراء في شتى مناحي الحياة.
لعل أزمة اليمن ستبقى ما بقي اليمنيون منقسمين وما بقي الصراع الإقليمي الذي يستهدف انتزاع اليمن من إرادة شعبه. وإذا كان ثمة ما يُقال فإن من الواجب أن تتراجع كل القوى الخارجية ويتصدر اليمنيون العقلاء المشهد السياسي بمبادرة يمنية خالصة تُخرج اليمن من محنته وخصوصًا بعد أن فشلت كل وسائل الدمار لحسم المعركة، على الجميع أن يتراجع وأن تتحمل القوى الإقليمية المنخرطة في الحرب مسؤوليتها لدعم اليمن ماليًا وإعادة بناء ما دمرته الحرب وإقامة مجتمع اقتصادي وزراعي وصناعي تتحمله هذه القوى التي تسببت في هذا الدمار بعد أن ثبت أنه لا طائل من هذه الحروب المدمرة، ولعلنا نشاهد كل يوم مآسي اليمنيين وقد هُجروا من بيوتهم، ودُمرت مستشفياتهم، وانصرف التلاميذ عن مواصلة دراستهم وفقد الجميع القدرة على مواصلة الحياة. إنها مأساة يتحملها العرب جميعًا. ورغم كل ما حدث ويحدث في اليمن فإننا يحدونا الأمل في أن يعود سعيدًا كما كان، ولا نجد أصدق تعبيرًا مما قاله الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني:
لا تَحسَبِ الأرضَ عَن إنجَابِها عَقِرتْ
مِن كُلِّ صَخرٍ سَيأتِي لِلفِدا جَبَلُ!
فَالغصنُ يُنبتُ غصنًا حِينَ نَقطعُهُ
والليلُ يُنجبُ صُبحًا حِينَ يَكتمِلُ!
سَتمطِر الأرضُ يَومًا رغمَ شِحّتِهَا
ومِن بطُونِ المَآسِي يُولدُ الأمَلُ!
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.