الوحدة في التّنوع.. استثمار إيجابيّ للاختلاف
قد يكون من التّناقض الجمع بين الوحدة والتّنوع في شيء واحد، ولكنّ ليس المراد هنا من حيث الهّوّيّة؛ لأنّ طبيعة الهّوّيّات الاختلاف والتّعدديّة، كان أصل الاختلاف تكوينيّا كالجنس واللّون، أو أصله كسبيّ كاللّغة والدّين، إلا أنّ الماهيّة واحدة لا تختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن أمّة إلى أمّة.
فالماهيّة الإنسانيّة ملازمة للوحدة، والهوّيّة ملازمة للتّنوع والاختلاف، والعالم مفطور على ماهيّة واحدة، وفي الوقت نفسه لا يستطيع العيش دون هوّيّات متنوعة، والسّؤال هنا كيف يمكن للماهيّة أن تحفظ هذه الهوّيّات وتبقيها، وكيف للهوّيّة أن تخدم وترقي المجتمع الإنسانيّ الواحد في ماهيّته؟
إنَّ أغلب الصّراع والتّنافر الّذي يحدث اليوم في العالم سببه الانطلاق من الهوّيّة إلى الماهيّة وليس العكس، بمعنى محاولة فرض هوّيّة واحدة عرقيّة أو دينيّة أو مذهبيّة أو ثقافيّة أو اقتصاديّة أو سياسيّة على العالم أجمع، وقد يكون على مستوى الدّولة القطريّة عندما تتكئ المواطنة على هوّيّة واحدة، وتهمّش الهوّيّات الأخرى، فيبنى دستور أو قانون أو نظام البلد على هوّيّة الهوّيّة لا على الماهيّة.
وأقصد بهوّيّة الهوّيّة أي لكلّ بلد هوّيّات، ولكن له هوّيّة تغلب على باقي هوّيّاته فيتكئ عليها، ويهمّش الهوّيّات الأخرى؛ لأنّ الدّولة بذاتها هوّيّة قطريّة مربوطة في قانونها الموحد للجميع بالماهيّة، ومستثمر لهذا الهوّيّات إيجابيّا في خدمة المواطنة باعتبارها قائمة على الذّات الإنسانيّة الواحدة، ومحققة مبدأ المساواة والعدل في الدّولة القطريّة.
والصّراع عموما إمّا سببه عرقيّ أو دينيّ أو ثقافيّ أو سياسيّ أو اقتصاديّ، أمّا الأول وهو الصّراع العرقيّ أو ما يسمّى بالصّراع الأثنيّ، والّذي تتشكل منه أثنيات عرقيّة أو أقليّات عرقيّة على مستوى الدّولة القطريّة، أو على مستوى العالم أجمع، هذا الصّراع العرقيّ إمّا سببه اللّون أو اللّغة أو القبيلة، وإن كانت اللّغة والقبيلة أقرب إلى الكسب الثّقافي من الجانب البيولوجيّ المطلق كاللّون، إلا أنّ ارتباط ذلك واضح باعتبار الولادة، والانتماء شبه التّكوينيّ، فيترتب الصّراع عندما ينظر إلى هذا الإنسان المتكوّن في ظلّ المواطنة باعتبار هذه الهوّيّة، ويكون مواطنا له كامل المواطنة إن تحقق فيه هذا الانتماء، كأن يكون أبيض أو عربيًّا أو صاحب قبيلة ما، بينما ينظر إلى الآخر نظرة دونيّة، وقد يحرم من حقوقه الإنسانيّة الأساسيّة، لهذا يتولد الصّراع كما حدث ويحدث قديمًا وحديثًا.
وتجاوز الصّراع العرقيّ لا يكون إلا بربط حقوق الإنسان وحقوق المواطنة بالماهيّة كما أسلفنا بيانه آنفًا؛ لأنّ ولادة هذا الشّخص في بيئة ما ليس لسبب اختيار إلهيّ أو جنسيّ، بقدر ما هو سنّة طبيعيّة بيولوجيّة، وهيّ سنّة في الكون أجمع لا تتغير ولا تتبدل، فماهيّته من حيث لونه كان أسود أو أبيض واحدة، كذلك عند من يتحدّث أيّ لغة معينة، ومن ينتمي إلى أيّ قبيلة أو دولة ما، لهؤلاء يعمّهم قيم مشاعة مرتبطة بالماهيّة تقوم كما يرى جون لوك [ت 1704م] على «حقّ الحياة، وحقّ الامتلاك، وحقّ الحريّة».
أمّا حقّ الحياة، وكما يسميه المقاصديون المسلمون بحفظ النّفس، متضمن لذاته حقّان: حقّ الوجود، وحقّ التّمتع بهذا الوجود، وفي القرآن الكريم: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة/ 32]، وقتل النّفس وإحياؤها ليس بالشّريطة أن يكون عن طريق إزهاق روح، بل يكون عن طريق تهميشها وإيذائها وسجنها وسلب حرّيّتها وتمريضها وتجهيلها، والعكس صحيح في الجانب الإحيائيّ، لهذا كان حقّ الامتلاك، وحقّ الحريّة ملازمًا لحقّ الحياة، وهذا جميعه مربوط بالذّات الإنسانيّة الواحدة، والّذات الإنسانيّة لها جناحان مهمان: المساواة والعدل، وهذا لا يتأتى إلا في ضوء الفردانيّة، وبهما نتعامل مع الهوّيّات الانتمائيّة.
وإذا جئنا إلى الصّراع الدّينيّ أو المذهبيّ، أو الاغتراب الماورائيّ والميتافيزيقيّ، فسببه إمّا اللّاهوت أو النّصّ الثّانيّ التّأريخيّ، أو الفهومات الظّرفيّة (الزّمكانيّة)، وأمّا اللّاهوت فنحن لا نتحدّث عن القوّة الفاعلة في الكون أي الله، وإنّما الجدل القائم على توصيف وشخصنة هذا الإله أو القوّة الفاعلة، ولأنّ الله سابق عن اللّاهوت جر هذا إلى الاغتراب الميتافيزيقيّ، وهذا ليس عند المسلمين فحسب؛ بل عند جميع الأديان.
وأمّا النّصّ الثّانيّ التّأريخيّ فساهم في تضخم النّصّ الأول، وفق تشكلات دينيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة لها بعد لاهوتيّ، فضلا عن الاجتهادات الزّمكانيّة الّتي لها دور في تشكل الهوّيّات الدّينيّة والمذهبيّة، خصوصًا إذا كان لها ارتباط بالخصوصيّات الدّينيّة والمذهبيّة في الطّقوس والممارسات التّعبديّة، ولها ارتباط سياسيّ من جهة، ومصلحيّ اجتماعيّ من جهة ثانيّة.
هذا التّشكل يولّد صراعًا يقود إلى التّطرف والعنف وإقصاء الآخر، وقد يقود إلى القضاء عليه كليًّا؛ إذا جعل حاكمًا على الماهيّة، ولم ينطلق من قيم الماهيّة نفسها، ولم تفهم هذه الأديان من خلال جوهر الرّوح المرتبطة من العلاقة بين الإنسان والله، وبين الإنسان والعالم الطّبيعيّ الآخر، فاختلاف الأديان تعدد طبيعيّ قائم على التّطور ذاته في الدّين، ولهذا الدّين يتشكل بعد التّدين، والتّدين في جملته أقرب إلى الغريزة الإنسانيّة الكامنة في البشر في إشباع الرّوح والجانب العاطفيّ في الجسد.
فالدّين والمذهب إذا جعل من ذاته هوّيّة حاكمة على الآخر ليكوّن صورة واحدة غير متعددة، هذا بلا شك يقود الإنسانيّة إلى الصّراع والدّمار، أمّا الدّين الّذي ينطلق من جوهر القيم المطلقة والمرتبطة بالماهيّة، هذا يقود إلى التّعدديّة الطّبيعيّة في الوجود؛ لأنّ الانطلاق من جوهر القيم يحفظ جميع الأديان والمذاهب والتّوجهات، ويحافظ على مساحة الحريّة الواسعة في التّدين واختيار الدّين الّذي يقتنع به، كما أنّه يطوّر الدّين ذاته، فلكل دين جانب إجرائيّ متحرك، فيدخل في الظّرفيّة الزّمكانيّة، وهذا يدور في دائرته الطّبيعيّة البشريّة، ولا يتخطاها إلى عالم الصّراع والإكراه والبغي والعدوان.
وأمّا الصّراع الثّقافيّ فلا يختلف عن الصّراع الدّينيّ، إلا أنّ الأول أخطر لمنطلقه الماورائيّ، وقد يخلق له من النّصوص حتّى الدّينيّة ما يؤيد وجوده وهيمنته، ويشتد الصّراع إذا ربط الصّراع الدّينيّ والمذهبيّ بالسّياسة والمال، لتحقيق أكبر قدر من المصالح البرجماتيّة والنّفعيّة لها.
لهذا اليوم ونحن نعيش هذا العالم بقريته البشريّة الواحدة، وحضارته الطّبيعيّة والإنسانيّة الجامعة للجميع، أن ننطلق من وحدة قيم الماهيّة، مع استثمار الهوّيّات المختلفة في خدمة الجنس البشريّ عمومًا.
وهذا الاستثمار ينطلق ابتداء من اعتبار الاختلاف طبيعيًّا أو تكوينيًّا حالة صحيّة، كما أنّه حالة طبيعيّة، والحفاظ عليه حفاظ على الماهيّة الإنسانيّة الواحدة، ولقد قرر القرآن ذاته سننيّة هذا الاختلاف عندما قال: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118 – 119].
وهذا الاختلاف يجر إلى التّعايش والتّعارف، والتّعايش من العيش المشترك في بناء هذه الحياة، وفي السّابق توجد حضارات في وقت واحد، أمّا اليوم فعندنا حضارة إنسانيّة واحدة، يشترك ويسهم فيها من في الشّرق والغرب على حدّ سواء، وهي مرتبطة بالإنسان والعقل والكشف السّننيّ والطّبيعيّ، فلم تعد الحضارة مسندة إلى الهوّيّة، كأن نقول حضارة شرقيّة أو غربيّة، أو حضارة هندوسيّة أو يهوديّة أو مسيحيّة أو إسلاميّة، أو حضارة عربيّة أو فارسيّة أو تركيّة، هناك حضارة واحدة هي حضارة الإنسان، لكنّها تضمّ ثقافات مختلفة، هذه الثّقافات تتحاور وفق قيم الحضارة وليس العكس، وهنا يأتي التّعارف، ومعناه التّعرف على الآخر والاعتراف به، كما في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات/ 13].
ولهذا يجب أن تكون المصاديق الأخلاقيّة، والتّشريعات الإجرائيّة، حافظة لهذا الإنسان جميعًا، ومتحركة إيجابيّا في بناء المجتمع الإنسانيّ، والمساهمة في رقيّه ونموه ورفعته، سواء كانت تشريعات سياسيّة أم دستوريّة أم مجتمعيّة، فهي لا تنفصل عن الجانب الفردانيّ الماهيّ للإنسان، ولا تجمد على هوّيّة معينة، فضلًا إن كان الوضع ماضويًّا يفترق بصورة كبيرة عن الواقع الإنسانيّ المعاصر في حضارته وإنسانيّته.
فهذه التّعدديّة المنطلقة من الماهيّة الواحدة تضفي جمالا بديعا في المجتمع الإنسانيّ، ليس على المجال الفنيّ فحسب، بل حتّى على الجانب الوجوديّ ذاته، كما يؤدي التّدافع الطّبيعيّ تحت ظلّ الحوار ومعرفة الآخر إلى تهذيب هذه التّعدديّة واستثمارها إيجابيّا في خدمة الجنس البشريّ، فضلا عن استغلال جميع الطّاقات المبدعة في خدمة الإنسان، وبناء منظومة إنسانيّة واحدة مستقلة عن أطماع السّياسيين وتهوّرهم، وعن مصالحيّة البرجماتيين ونفعيتهم، فيكون الإنسان موضوع غاية يسهم الجميع في بنائه ورقية، وهذا يدفع المجتمعات البشريّة عموما نحو السّلم العالميّ، والابتعاد عن الحروب والصّراعات بكافة أنواعها.
وإذا كان هذا على مستوى الفرد، فلا يقل ذلك عن مستوى الدّول ومواطنيها، فيجب المساهمة في إحياء جميع الدّول واستقرارها ونموها، والقضاء على التّمايز بينها، ليعيش الإنسان حرًّا كريمًا بماهيّته وإنسانيته في أيّ بقعة من الأرض كان فيها ولادة أم استقرارًا، ولن يتولد ذلك إلا في وحدة الماهيّة، والحفاظ على تعدديّة الهوّيّة، فالوحدة كامنة في التّنوع.
بدر العبري كاتب عماني مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»