الهيئة الوطنية للانتخابات.. ضرورة المسار الديموقراطي المعاصر

28 ديسمبر 2022
28 ديسمبر 2022

أظهرت الانتخابات البلدية للفترة الخامسة والتي جرت يوم الأحد الماضي، أهمية إقامة هيئة وطنية للانتخابات في سلطنة عمان، تختص دون غيرها بإدارة الانتخابات والاستفتاءات المحلية، وتنظيم جميع العمليات المرتبطة بها، والإشراف عليها باستقلالية فنية ومالية وإدارية وحيادية، وتكون لها شخصيتها الاعتبارية، فما أحدثه الاقتراع الإلكتروني من دقة وسهولة ويسر للناخبين يعزز مطالب إقامة هذه الهيئة الآن، لكي تواجه تحديات مستقبلية قد أصبحت معلومة منذ الآن، سواء استمر الاقتراع الإلكتروني وأمتد للشورى، أو عادت عملية الاقتراع إلى الأسلوب الاعتيادي عن طريق صناديق الاقتراع المباشرة، فاستشرافات المستقبل تحتم وجود هذه الهيئة المستقلة، عوضا أن تكون جهة حكومية مشرفة عليها، فاستمرارية هذه الجهة قد تجاوزتها عملية رسوخ نظام الانتخابات من حيث ممارساتها التنظيمية واستحقاقاتها الانتخابية.

وتبرر أهمية الهيئة المستقلة لعدة اعتبارات، أبرزها:

- تقسيم الدولة من الناحية الوظيفية إلى الثلاثية القطاعية، وهي: القطاع الحكومي/ العمومي، والقطاع الخاص، والقطاع المدني، وهذا التقسيم هو نتاج التحول في دور الدولة الجديد، من الرفاه إلى تبني سياسة ضريبية وفق مفهوم اجتماعي يخفف من دور الدولة الاجتماعي، ويعزز المشاركة الاجتماعية للقطاع الخاص، ويستنهض أدوار القطاع المدني، كما هي – أي القطاعية الثلاثية " من أهم استهدافات رؤية 2040.

- الوعي النخبوي والاجتماعي بمنظومة الحقوق مقابل الواجبات في عصر الضرائب.

- التنافسية الانتخابية -محافظة ظفار نموذجا-، وتعاظم طموحاتها المستقبلية في فوز مرشحي المكونات الاجتماعية.

- حملات التوعية الممنهجة التي يحتمها المسار الديموقراطي.

- الأجندات العالمية بشقيها الحكومي والمستقل داخل المنطقة الخليجية من منظور التركيز على الإنسان، وحقوقه السياسية، ليس لدواع مجردة، وإنما مسيسة، مما قد تتقاطع مع أي صوت قد يشكك في النتائج بسبب الإشراف الحكومي على العمليات الديموقراطية، والتشكيك قد يصنع من العدم لمجرد أن هناك جهة حكومة تشرف وتنظم الانتخابات، فكيف بالتصويت الإلكتروني؟ فعوامل التشكيك واردة تماما، وقد تصنع كضغوطات من الخارج.

- ما أفرزته التجربة الانتخابية في البلاد منذ تأسيسها عام 1981 وحتى الآن من القبول الاجتماعي بنتائجها، مما شهدنا ولوج نخب من مكونات اجتماعية وصلت عن طريق صناديق الانتخابات إلى المجلسين البلدي والشورى وغرفة تجارة وصناعة عمان وفروعها في المحافظات، ومن ثم إلى مناصب وزارية، وما كان لها أن تحصل عليها دون العملية الديموقراطية ونزاهتها ومساواتها.

كل تلكم الاعتبارات تجعل من كل المكونات الاجتماعية تراهن على المسار الديموقراطي في البلاد، مما يحتم ذلك أن تكون قضايا النزاهة والشفافية أولويات مستدامة، وحاكمة لآليات وميكانزمات العمليات الانتخابية، وكذلك ذات ثقة عالية بها، ومجمع عليها من قبل الناخبين والمنتخبين، ولا تمنح الخارج ثغرات للنفاذ إليها، وهذا يكون بوجود هيئة وطنية للانتخابات.

وكذلك، لأن المسار الديموقراطي أهم ما يميزه أنه متطور، وهنا يمكن إدخال التصويت الإلكتروني كنموذج، وكذلك يتميز بأنه منفتح على المشاركة المجتمعية، وفي طريقها نحو التمكين سواء عن طريق المنح السياسية، أو بحكم تطور الديناميات الداخلية أو الدولية الجديدة، ولو حاولنا نفتح بعض ملامح الاستشراف، فيمكن القول بشيء من العمق، أن القضايا المجتمعية من بينها الفكرية والأيديولوجية عامة أو خاصة بالجماعات، ستنقل إلى المجالس المنتخبة بحكم أنها الخيار الوحيد المتاح لها بعد إغلاق كل الخيارات الميدانية أمامها.

وتطرح الفقرة الأخيرة منطقة وعي عميقة في الأفقين الرأسي والعمودي للمستقبل، لا يمكن تجاهلها أو تغييبها من سياقات التطور الديموقراطي وانعكاساته المختلفة، وهي ستكون مرتبطة بمدى التغيير الذي سيحدث في العلاقة السياسية بين السلطة والمجتمع في عصر الضرائب، وكذلك عدم ممارسة كل شركاء القطاعات الثلاثة -الحكومية والخاصة والمدنية- أدوارها برؤية شاملة، وبأدوار متكاملة، ومن ثم مشاركتها في المجالس المنتخبة، وهناك ماهيات للتغيير ملموسة الآن، يمكن البناء عليها بسهولة الآن، وهذا في حد ذاته يشرعن الاستعجال بالهيئة الوطنية للانتخابات حتى يبعد أية مزاعم أو ادعاءات كأن تكون مسيسة بشأن النزاهة، مما قد تشوش على المسار الديموقراطي، وتثير الخلاف بشأن نتائجه رغم وجود النزاهة.

كما تبرز أهمية الهيئة الوطنية للانتخابات لدواعي تمثيل البلاد في اجتماعات ولقاءات نظيراتها الإقليمية والعالمية، فالطابع الحكومي على الانتخابات وعلى أية مشاركة خارجية في المنظمات التي تعنى بالانتخابات يعطي الانطباع منذ الوهلة الأولى بسيطرة الحكومة على سير الانتخابات ونتائجها، رغم أن هذه السيطرة هي مجرد تنظيمية، وحتى لو كانت العملية الانتخابية تتم بنزاهة وبشفافية، فالثقافة الدولية ضد أية تدخلات من الحكومات في مثل هذه المسارات، وهنا ينبغي مراعاة مثل هذه الثقافة، والعمل على تحييد إكراهاتها وتقاطعاتها عبر غل يد أية جهة حكومية في تنظيم الانتخابات والاستفتاءات وإدارتها والإشراف عليها.

وبصرف النظر عن الهواجس الخارجية في شأننا الداخلي، فإننا ننظر للهيئة الوطنية للانتخابات على أن وجودها سيكون إحدى ثمرات النهضة المتجددة من منظور إصلاحاتها السياسية، كما ستعبر عن استجابة تلقائية للمطالب الاجتماعية، ولسنا الوحيدين الذين يطالبون بهذه الهيئة المتخصصة للانتخابات، وإنما هناك الكثير من الزملاء كذلك، وكنا قد رأينا أهميتها في مقالات سابقة، لكن الآن يتعاظم المطالبة بها بحكم أن المسار الديموقراطي قد يستهدف ضمن الأجندات الخارجية القديمة / الجديدة.

وإذا ما توفرت الإرادة السياسية للهيئة، فينبغي الإسراع في بناء هيكلها المؤسسي، وتوفير كل مقومات مواجهة التحديدات الخارجية، وتوفير ضمانات استدامتها، ومن خلال اطلاعنا على تجارب بعض الدول المستقرة ديموقراطيا، والمستقرة تعني هنا أن التنظيم والإشراف والنتائج لم تشهد اعتراضات عليها، وبالتالي تجنبت التدخلات الأجنبية، وجدنا أن تشكيلة الهيئة الوطنية للانتخابات بأجهزتها المختلفة تتكون من نواب قضاة المحاكم العليا ورؤساء محاكم الاستئناف ونواب المجلس المنتخبة ونواب من الهيئات الرقابية والإدارية ومن مؤسسات المجتمع المدني، ويمكن إضافة كذلك أساتذة الجامعات فيها، مع السماح بالرقابة الصحفية المحلية، ومن ثم فتح إمكانية الطعن في النتائج عند الطلب، وستكون عندئذ إجرائية وليست سياسية، وبهذه التركيبة نكون قد حققنا الشروط الموضوعية لمعايير الاستقلال والحياد والنزاهة للهيئة الوطنية للانتخابات.