الهوية بين اللغة والتاريخ !
على الرغم من تباين اللهجات العربية في شبه الجزيرة العربية، إلا أن اللغة قد اكتسبت قدرًا من التقدير في البلاد غير العربية بعد أن دخلها الإسلام، وليس من قبيل المصادفة أن ينزل القرآن الكريم باللغة العربية الفصيحة، التي استوعبت كل حضارات المستعربين (يونان، فرس، هنود...إلخ). بعد أن أصبحت لغة التخاطب بين هذه الشعوب، ليس في دوائر العرب فقط، بل بين أبناء تلك الشعوب، فقد تطلب منهم العناية بحفظ القرآن الكريم ودراسة السيرة والأحاديث النبوية الاهتمام بالدراسات اللغوية، وقد نجم عن ذلك العناية بوضع المعاجم اللغوية، كما كان لثراء اللغة العربية بمفرداتها أكبر الأثر في الترجمة في مختلف العلوم، من قبيل الطب والفلسفة من اللغات السريانية واليونانية والفارسية، وهو ما أكسب اللغة العربية القدر الأكبر من التنوع والحيوية، بعد أن صارت العربية جديرة بحمل راية الإسلام.
يعد القرآن الكريم هو أساس الانتماء للعرب، لذا أصبح العرب قلب الأمة الإسلامية، وما أعقب ذلك من فتوحات أكسبت العرب شعورا بالاعتزاز بدورهم، لذا أصبحت العربية لغة الثقافة والحضارة والفكر حينما شاعت حركة تعريب واسعة. رغم حدوث هجمات شعوبية على التراث العربي، حينما أصبحت الدراسات العربية هي صلب الثقافة الإسلامية، بعد أن عني العرب بدراسة علوم القرآن تفسيرا وفقها وحديثا ومعرفة بتاريخ العرب ونسبهم وقبائلهم، وأبدع العلماء في كتابة تراث أمتهم كالجاحظ (ت: 868م) الذي قدم صورة حية للثقافة العربية، في كتابه الشهير «البيان والتبيين»، كما ظهرت كتابات أخرى كثيرة من قبيل ما كتبه أبي تمام (ت: 845م) والبحتري (ت: 897م)، وجميعهم قدموا أعمالًا أدبية شعرية بديعة، أظهرت روعة العرب فيما قدموه من أدب وشعر، أعقب ذلك المؤرخون الكبار ومن بينهم ابن قتيبة (ت: 889م) في كتابه «المعارف» وهو عمل علمي حافل بالمعارف التاريخية والخبرات الإنسانية والثقافية والاجتماعية. وقد ساد القول أن العرب «والمسلمين» أمة واحدة، وقد خاطبهم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: «كنتم خير أمة أخرجت للناس..» (آل عمران 110).
أوجز الجاحظ هذه المعاني كلها حينما أكد على أن كل القبائل العربية شمالية وجنوبية، على اختلاف أنسابها، جميعها من أصول واحدة، كما لاحظ الجاحظ بعبقرية شديدة درجة الاختلاف بين القحطانيين والعدنانيين، بل وبين العدنانيين أنفسهم، ورغم ذلك فقد أكد أن العرب جميعا أمة واحدة لأنهم قد استووا في الأنساب وفي اللغة والهمة والأَنفة والأخلاق والسجية، لذا سُبكوا سبكا واحدا، وتشابهت الأجزاء، وتناسبت الأخلاط. وهكذا أكد الجاحظ على أهمية اللغة باعتبارها المقوم الأهم لمعنى الأمة والرابطة الأولى للعرب، وقد جعلها بديلا عن النسب في المفهوم القبلي.
أعتقد أن مفهوم الهوية لم يكن قد استقر بعد إلا حينما قدم عبد الرحمن بن خلدون (ت: 1406م) أول نظرية علمية دقيقة لمفهوم العرب باعتبارهم أمة ذات روابط بشرية، بصرف النظر عن الدين، وفي مفهومه عن معنى الأمة لم يغفل أثر البيئة الطبيعية في معرفة نوع المعاش وصنوف البشر وخصائصهم وعاداتهم وتقاليدهم، وينتهي من ذلك إلى العوامل الدينية. وتبدو عبقرية ابن خلدون حينما قال إن انهيار الدولة لا يعني زوال الأمة، بل يعني زوال العصبية في شعب، لتظهر في آخر في ذات الأمة الواحدة، فالأمة باقية بينما الدول تقوم وتنهار!
لقد أولى ابن خلدون أهمية باللغة العربية مؤكدا على أثر الإسلام على العربية، باعتبارها لغة الدين والشريعة، كما أنها لسان القائمين على شؤون الدولة، لذا سادت كل البلاد وأصبحت لغة الأمصار الإسلامية شرقا وغربا، لكنه يرصد وبذكاء شديد أن اللغة غالبا ما تتأثر سلبا بسبب الاختلاط بغير العرب، إلا أن العربية الفصحى تبقى دائما أكثر شيوعا وتأثيرا لأن القرآن الكريم والسنة النبوية لا يفهمان إلا بالعربية الفصيحة.
تعرضت اللغة العربية بكل مفردات ثقافتها إلى هزات عنيفة خلال العصر العباسي وما أعقبه، حينما تسيَّد العجم على العرب، ورغم ذلك فقد بقيت العربية هي اللغة السائدة في كل الأمصار، ولعل ذلك هو الذي أدى إلى تحديد مفهوم واضح للعروبة، التي لم تعد تعتمد على النسب، بل صارت قاعدتها الراسخة هي اللغة والثقافة، وما يتصل بهما من نمط متكامل للحياة، فضلا عن أن مفهوم الأمة العربية تاريخيا لم يرتبط بالوحدة السياسية، وخصوصا بعد تعريب البدو والحضر.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم تنتشر العربية في بلاد فتحها العرب مثل فارس والبنجاب والأندلس وغيرهم؟ لقد فتح العرب هذه البلاد لكن بقيت المواجهات العسكرية التي لم تتوقف من جانب سكان هذه البلاد، بعد أن ظل العرب يديرون هذه الدول في الأمصار المدنية المتباعدة، وسط محيط متلاطم من السكان الأصليين، الذين اعتصموا بثقافتهم ولغاتهم بعيدا عن الدين، وقد نجم عن ذلك شعور قوي بهوياتهم لغة وثقافة، وهو ما حال دون تعريب هذه البلاد. بينما كانت القضية أكثر سهولة في بلاد أخرى مع الساسانيين والبيزنطيين في العراق والشام وشمال أفريقيا، حينما نجح العرب في القضاء على الدول القائمة وتحققت لهذه المجتمعات نهضة ثقافية عربية كبيرة.
ترسخ الوعي العربي بين القبائل بعد أن تلاشت العصبيات، وقد اكتسب الوعي بهذا المعنى مفهوما لغويا وثقافيا، وخصوصا بعد أن اتسع النشاط الاقتصادي واتسعت دائرة العلاقات بين الريف والحضر وظهور المال في العلاقات الاجتماعية، لذا أصبحت العربية هي اللغة السائدة بين العامة والمتعلمين، وهو ما أكسب اللغة مفهوما ثقافيا واجتماعيا اتسع لكي يشمل كل مناحي الحياة.
لعل الانفتاح على الثقافات الأجنبية في التاريخ المعاصر قد حدَّ من مفهوم الوعي بالأصول الثقافية العربية، لكن بقيت العربية هي القاعدة الراسخة لمفهوم الهوية في ظل إرث ثقافي مشترك، يجمع كل العرب من المشرق إلى المغرب،. لا نبالغ إن قلنا أن التحديات الخطيرة التي تحيط بهويتنا العربية قد أنتجت وعيا جديدا لفكرة العروبة ليس بمعناها اللغوي أو العرقي ولكن بمعناها الثقافي والاجتماعي والسياسي.
على الرغم من كل التحديات التي تحيط بأمتنا العربية في حياتنا المعاصرة، لكن ستبقى الهُوية بمعناها اللغوي والثقافي والتاريخي هي الحصن الحامي لهذا الإرث الحضاري الكبير، الذي يعد نمطا متكاملا للحياة بكل مفرداتها اللغوية والاجتماعية والفكرية.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.