الهرب من الضوضاء إلى الضوضاء.. والمشوار بينهما
أفتح النافذة. هذه المرة لا ليدخل الهواء النقي والبارد، أو ليس لهذا فحسب. أسكن في شقة أرضية، يُمكن عند فتح نوافذها سماع السهرانين يتمادون في سهرهم، أو يذهبون إلى البيت. كما يُمكن سماع الخبازين في الفجر يهمون لمخابزهم، والموظفون يمشون بهدوء نحو المحطة التالية التي ستقلهم إلى عملهم، إلى يومهم القادم.
يُمكن لهذه الضوضاء أن توقضك، كما يُمكنها أن تحملك إلى نوم هادئ، كما تفعل تهويدة. أي شر يكمن في لحظات الصمت لنتجنبه بكل هذا الإصرار. وأي وحش نحارب بقصص ما قبل النوم، بمناجاة المخدات، بالموسيقى، وبالبودكاسات، وغيرها من مصادر الصوت التي تقترح علينا بماذا نفكر، بماذا ننشغل إلى أن نفقد وعينا أخيرا، ونستسلم لهذا الشيء الذي لا نعرف ما يعني ولِمَ نحتاجه ونواضب عليه (أعني النوم).
نقول إننا أخيرا سنخلد للنوم لنرتاح من ضجيج العالم، إلا أننا وقد اطفئنا كل ضوء وصوت، نُدرك فجأة مدى فداحة السكون. فنمد أيادينا إلى هواتفنا، إلى الرموت-كنترول لصناعة نوع من الضجة التي يسهل التحكم بها، لكننا أحيانا نُريد شيئا يقترح نفسه علينا، يُفرض علينا تقريبا، فنفتح النوافذ.
ضد ماذا نُسخر الضوضاء؟ إجابة أولى محتملة هي أننا نستخدمها ضد أفكارنا الداخلية، التي قليلا ما نجرؤ على مشاركتها مع أحد، ولا سبيل لنا لإيقافها غير الهروب منها عبر المشتات اللانهائية لانتباهنا. ضد هذا الصوت الداخلي الذي قليلا ما يُذكرك بالأشياء الجيدة التي فعلتها في يومك، وكثيرا ما يهوي عليك بكل خطئ جليل أو صغير كان، بكل دلالة على عدم كفاءتك. يُقارن -دون هوادة- بين ما يجب أن تكونه وما أنت عليه، بين ما تُريده لنفسك، وما لا يُمكن أن تطاله، وبالكثير من الأشياء المادية أو غير المادية التي تفتقدها.
إجابة أخرى محتملة هي أننا نتوسل بالضوضاء للهروب من الصمت السحيق الذي يشل الجسد. نعرف ثقل الصمت. نجلس مع أحدهم، أو نشاركه مشوار مشيه أو مشوار السيارة، مُقاتلين بشراسة ضد الصمت، نحن على استعداد للتحدث في شيء لا يهمنا البتة، أو للانخراط في أحاديث معادة، ونلجئ أخيرا للموضوع الأول الذي ما يزال يثبت جدواه مرة بعد أخرى: الطقس. الطقس حاضر دائما لإنقاذنا! تغير المناخ -رغم فضاعته- يُنقذنا من أسوء التجارب. تجربة أن تكون صامتا مع أحدهم وأنتما تذهبان في الطريق نفسه. ويبدو في تلك اللحظة أن كل الأعاصير والفيضانات، الثلج الذائب، والأنواع التي تنقرض، الخبز الذي ينط ثمنه بحماس كل شهرين، كل هذا أهون من أن تجلس في السيارة صامتا! لا يبدو أن ثمة ما يُعادل الضجر، أو أن نُوضع في موقف نفشل خلاله في أداء واجبنا البشري تجاه الآخر: أن نكون مُرفِهين، ونحمل عن أخوتنا في البشرية ثقل وجودهم، ونسليهم بإخلاص حتى نهاية المشوار.
دعوني أتشعب في الحديث لحظة وأسأل: لماذا الطقس تحديدا؟ ما الذي يجعله دون عداه المادة الأولى (والافتراضية) لأي حديث صغير؟ ربما لأنه أمر يُهمنا جميعا، فهو ما نفعله على نحو شبه آلي أول استيقاضنا من النوم. لكن ثمة الكثير من الأمور التي تهمنا والتي نفعلها بداية يومنا، لكنها نادرا ما تجد طريقها إلى أحاديثنا. الإفطار مثلا، مع هذا فنحن لا نسأل ماذا أكلت هذا الصباح، إلا إن كان ثمة غرض من سؤالنا، كأن نستشف أن كان الآخر يُفضل أن نجلس في المقهى أو نذهب إلى مطعم ما. لكن إفطارك، ورغم تفاهة الموضوع يُمكنه أن يقول دائما شيئا عنك: هل تستيقض مبكرا أم متأخرا (وعليه هل أنت كسول أو نشيط)، يُخبر أيضا إن كنت مُراع لصحتك أم مهمل لها (هل احتوى فطورك على الحصة الكافية من الألياف والفيتامينات؟). على عكس هذا فالطقس لا يُخبرنا شيئا عنك، إما أن يكون الجو حارا فتستحر مثل الجميع، أو تبرد كالجميع عندما يبرد الجو. الطقس فوق ذلك خارج تحكمك، إنه -على عكس صحتك أو نشاطك- لا يُمكنك فعل شيء بشأنه إن كان سيئا، كما أنه لا يد لك في تحسينه ولو بأقل قدر. وأنت حين تتناوله لا تكون جزءً من حديث حقيقي، كل ما تفعله هو أنك تُلقي بهذا البيان، آملا أن يثمر عنه شيئا آخر، وهكذا.
عودة لموضوعنا، فلنسأل من جديد: ضد ماذا نُتوسل بالضوضاء؟ إجابة أخيرة محتملة هي أننا وقد غلبتنا قيم الإنتاجية والفائدة نُريد استثمار وقتنا حتى آخر لحظات اليوم، في الاستماع إلى كتاب صوتي يُمكن تسخير محتواه في عملنا، أو مشاريعنا الشخصية. أن نفعل ما هو مفيد ونافع؛ لإن هدر الوقت مبغوض، أمر لا نتساهل مع أنفسنا بشأنه، فأي استراحة -مهما قصرت- تُهددنا بالخروج من السباق، وخسارة.. خسارة ماذا؟ لا نعرف تحديدا، لكننا لا نُريد أن نكون خاسرين على أي حال.
عموما، وأيا يكن الدافع، أو الدوافع التي تتداخل معا حتى تستعصي على الفصل، ها نحن نفعل هذا على أي حال. نُكمل سعار أيامنا بمزيد من الجري. لا نتوقف، وإنما يهدنا التعب آخر اليوم، فنسقط في النوم دون عِلم أو تحكم.