النموذجان الآسيوي والعربي ما الذي صنع الفارق؟
خلال العقود الأربعة الماضية بدأت ظاهرة النمور الاقتصادية لدول جنوب شرق آسيا في الظهور على الساحة الاقتصادية الإقليمية والدولية، هذا الجزء الآسيوي من العالم تعرض لأقسى الحروب في التاريخ الحديث بعد الحرب العالمية الثانية ومن خلال التطرق إلى أرقام الضحايا الذين سقطوا في تلك الحروب سواء من خلال التدخلات الخارجية الاستعمارية أو من خلال الصراعات الداخلية يمكن القول إن هذا النموذج الآسيوي ينبغي التوقف عنده بشكل موضوعي ليس بهدف المقارنة بالعالم العربي على سبيل المثال ولكن للتفكير الموضوعي لتلك النقلة النوعية لدول لا تمتلك الكثير من المصادر الطبيعية وخرجت من حروب وصراعات طاحنة راح ضحيتها الملايين من الضحايا المدنيين علاوة على أن تلك البلدان ذات أعراق وديانات متباينة، وكصحفي في جريدة عمان لأكثر من عقدين ومن خلال عدد من المهام الصحفية زرت هذا الجزء من العالم وشاهدت جزءا من تلك التجربة بداية من أرض الشمس المشرقة مرورا بسنغافورة وتايلاند والفلبين وإندونيسيا وماليزيا علاوة على القراءات المتعددة حول تجارب فيتنام ولاوس وكمبوديا، وعلى ضوء ذلك يمكن القول بأن النموذج الآسيوي قدم تجربة مميزة على صعيد الانتقال من التجربة الزراعية المحدودة إلى عالم التصنيع والتكنولوجيا. اليابان على سبيل المثال تعرضت لقنابل نووية مع نهاية الحرب العالمية الثانية وهذا أقسى تدمير يمكن أن تتعرض له دولة: أرضا وشعبا ومقدرات ومع ذلك نهضت اليابان بإرادة فولاذية، رأيت جزءا منها ليس فقط فيما وصلت إليه من تقدم تقني وصناعي خلال زيارتي الصحفية لها عام ١٩٩٣ وخلال حديث عدد من المسؤولين فإن التخطيط لرؤية اليابان أو ما ينبغي أن تكون عليه بدا من خلال اجتماعات من داخل المباني المهدمة ومن خلال شهور بعد حدوث الفاجعة المهنية وكان العامل الأساسي أمام المخططين أو إرسال البعثات الدراسية إلى الجامعات الأمريكية والغربية علاوة على وضع جدول زمني صارم للوصول إلى المستهدفات في مجال صناعة السيارات وصناعة الإلكترونيات وحتى على تصدر المشهد العالمي في مجال صيد وصناعة الأسماك ورغم الظروف القاسية خلال الخمس السنوات التي تلت الهجوم النووي الأمريكي البشع انطلقت اليابان وخلال خمسة عقود أصبحت ثاني اقتصاد في العالم وكان التركيز علي طلبة الدبلوم العام من خلال التدريب على المهن الفنية والصناعية. وكان النموذج الياباني المميز هو الدافع الأكبر لبقية دول جنوب شرق آسيا التي انطلقت بعد صمت هدير الحروب والصراعات الكارثية وكانت نهاية الحروب مع منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي هو البداية الحقيقية لنمور جنوب شرق آسيا وكان التعاون بين تلك الدول يعطي مؤشرا على أن هذه الدول يمكن أن تنجح من خلال وجود رابطة أو منظمة ومن هنا جاءت رابطة الآسيان لتفعل العمل الآسيوي المشترك وكان الاهتمام بالقضايا غير السياسية هو الهم الأول خاصة على صعيد التنوع الاقتصادي والدفع بالممكنات نحو التطوير خاصة قضية التعليم والتي تعد سنغافورة أحد النماذج التي يشار لها بالبنان علاوة على تطوير نماذج اقتصادية بعيدا عن التقليدية التي تسير عليها النظم الاقتصادية العربية وعلى ضوء ذلك نجحت الدول الآسيوية التي لا تمتلك الثروات الطبيعية في حين أن عدد من الدول العربية لم تسجل النجاح المنشود خاصة على صعيد التصنيع والتقنية وظل الفكر التقليدي مسيطرا على مخططي الدول العربية ومن هنا فإن ثمة فوارق في الفكر وغياب البيروقراطية وبقاء القيادات العربية في الدول ذات النظم الجمهورية لسنوات طويلة وانتشار ظاهرة الفساد الإداري والمالي ومن هنا فإن دول جنوب شرق آسيا سجلت تجربة ينبغي التوقف عندها كنموذج.
ولا يعني التعرض للنموذج الآسيوي هو تطبيقه بشكل ممنهج ولكن الطرح هنا هو الإرادة الوطنية لتغير الواقع السلبي إلى واقع مختلف من خلال إرادة واضحة تعتمد على المحاسبة والحوكمة والإنتاجية والشفافية واعتماد المؤشرات وأن يكون هناك قناعة واضحة لصناع القرار بأن عدم نجاح أي مسؤول في التناغم مع فكرة التقدم والتطوير وتقدم المؤشرات فعلي ذلك المسؤول أن يغادر مكانه ليعطي الفرصة لفكر مختلف ولعطاء متجدد مختلف وهذا ديدن الحكومات التي ليس لها المزيد من الوقت لتدخل التجربة تلو الأخرى.
الدول العربية ومنذ عهود الاستقلال كانت أمامها فرص كبيرة لإيجاد نموذج وخطط تجعلها على قدم المساواة ليس مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وإن كان ذلك طموح مشروع لكن على الأقل تصل إلى مستوى دول جنوب شرق آسيا بل وأفضل من ذلك النموذج. وقد يطرح تساؤل بأن بعض الدول العربية دخلت حروبا صعبة، هذا صحيح وكانت القضية الفلسطينية هي محور الصراع العربي الإسرائيلي ومع ذلك فإن مقارنة موضوعية بين الحروب العربية مع الكيان الإسرائيلي منذ عام ١٩٤٨وحتى عام ١٩٧٣ على صعيد حروب الجيوش النظامية لا يقارن بالحروب الكبيرة التي شهدتها دول جنوب شرق آسيا وربما الاستثناء الوحيد هنا هو الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت عام ١٩٨٠ وانتهت بنتائج كارثية للبلدين الجارين عام ١٩٨٨ ومع ذلك فإن حرب فيتنام ضد القوات الفرنسية وبعد ذلك ضد القوات الأمريكية نتج عنها أكثر من أربعة ملايين ضحية على ضوء بعض التقديرات الحرب في الفلبين وكوريا في عقد الخمسينات نتج عنها سقوط الملايين من الضحايا الحرب الكمبودية الأهلية بين الحكومة وجماعات الخمير الحمر نتج عنها ملايين الأرواح وكذلك الأمر في لاوس كما أن اليابان تعرضت كما تمت الإشارة إلى حرب نووية ضد مدن هيروشيما ونجازاكي وعند سماع قصص الرعب النووي ونحن نستمع مع عدد من الزملاء الصحفيين العرب عن نصب السلام التذكاري في هيروشيما ومن خلال سماع شهادات من أناس ناجين من مذبحة هيروشيما تدرك مدى الجريمة البشعة التي تعرض لها الشعب الياباني عام ١٩٤٥وعلى ضوء ذلك فإن التعاطي مع النموذجين الآسيوي والعربي لا ينطلق فقط من عوامل جيوسياسية وحروب ولكن من خلال الفكر والرؤية لما ينبغي أن تكون عليه الدول حتى وهي في أحلك الظروف كما في الحالة اليابانية التي زرتها واستمعت إلي قصص النجاح في هذه الدولة الصناعية العملاقة.
من العوامل الموضوعية التي تصب في مصلحة دول جنوب شرق آسيا واليابان هو غياب الموارد الطبيعية والجغرافية البركانية والزلازل كما هو الحال في الصين واليابان في حين أن إمكانات دولة عربية كالسودان تفوق حتى دول مجتمعة من الدول الآسيوية وقد زرت السودان شخصيا عام ٢٠١٥ خلال اجتماعات الاتحاد العام للصحفيين العرب وهي فعلا سلة الغذاء العربي وبها نهر النيل وتفرعاته الأزرق والأبيض وثروة حيوانية ومعدنية كبيرة ومع ذلك دخل السودان في حروب وصراعات داخلية منذ الاستقلال عن بريطانيا عام ١٩٥٦ ولا شك أن التدخلات الخارجية كانت حاضرة ومع ذلك فإن الإرادة الوطنية تعد هي العامل الأساسي للمحافظة على الوحدة الوطنية، وأيضا، تسخير الموارد والمقدرات لصالح الشعوب والنموذج السوداني ينطبق على عدد من الدول العربية وعلى ضوء ذلك فإن المقال الذي نحن بصدده لا يناقش مقارنات بين دول جنوب شرق آسيا والدول العربية لكنه يستلهم فكرة الإرادة والإحساس بأن الوصول إلى مستوى أفضل هي مسألة ممكنة إذا توافرت آليات تنفيذ حقيقية كما أن رابطة العرب القومية وهي جامعة الدول العربية ظلت أسيرة مواقف أعضائها طوال أكثر من سبعة عقود وأصبحت ثقة الشعوب العربية وحتى النخب في أدائها يتضاءل ويفقد الثقة وهذا شيء طبيعي، ولعلّ أحدث فصل ذلك العجز من الجامعة العربية هو عدم قدرتها على اتخاذ موقف فعلي تجاه العدوان الصهيوني الظالم على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وعموم فلسطين بعد تسعة أشهر من المجازر والإبادة الجماعية والتي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ومن هنا فإن تغيير المشهد العربي يبدأ بمراجعة فعلية وموضوعية والنظر إلى النماذج الأخرى برؤية متوازنة.. وهناك ظروف مختلفة تاريخية وجغرافية ولكن التجارب الإنسانية ونجاحها تبنى على قواعد مشتركة وعلى استراتيجيات علمية واضحة ونرى الآن عملاق آسيا القادم الصين وهي تستعد لإزاحة الولايات المتحدة الأمريكية عن عرش الاقتصاد العالمي خلال عقدين من الزمن كما تشير إلى ذلك بعض الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية.
تمتلك الدول العربية إمكانات ومقدرات طبيعية وبشرية ولكن تبقى الرؤى والفكر والإرادة الوطنية وجودة التعليم أولا وأخيرا هي الأداة نحو الانطلاقة المختلفة التي تمكن تلك الدول من أخذ مكانها الطبيعي بين الدول المتقدمة في ظل مناخ تنافسي كبير ومعقد وفي ظل جيوسياسي في المنطقة العربية والعالم.
عوض بن سعيد باقوير صحفي وكاتب سياسي وعضو مجلس الدولة