النظام الدولي الراهن بين الحربين.. الساخنة والباردة
منذ عدة أيام التقيت ببعض الزملاء من المثقفـين والمهتمين بالقضايا السياسية العربية والدولية فـي إحدى المكتبات الخاصة، سواء الذي يتعلق بالوضع العربي أو الوضع الدولي، حيث تعيش فـيه الحروب والتوترات والصراعات، ومنها الحرب الإعلامية القوية الدائرة الآن حول الحرب فـي أوكرانيا، بين روسيا الاتحادية ومعها الصين وكوريا الشمالية فـي جوانب الحرب الباردة مع الغرب الرأسمالي فـي الوقت الراهن، وبالأخص بين القوى الغربية المتمثلة بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، خاصة بعدما زودت الولايات المتحدة وبعض دول حلف الناتو القوات الأوكرانية بصواريخ هجومية، تصل مداها إلى عمق روسيا واحتلال أراض روسية من قبل أوكرانيا، وهذا ما كانت ترفضه الدول الغربية والولايات المتحدة فـي بداية الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، فأعلنت أنها ترفض تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية داخل روسيا الاتحادية، فـي بداية الحرب، ولكنها استراتيجية تكتيكية لاستنزاف روسيا فـي استمراها بالحرب والتوغل فـي هذا الصراع حتى تقع فـي المستنقع الأوكراني، ولا شك أن الغرب كان هدفه إيقاع روسيا فـي هذه الحرب واستمرارها بهدف إضعافها، ثم جعلها فـي موقف أضعف باتخاذ مواقف ربما عدم إعادة القوة التي كان عليها أيام الاتحاد السوفـييتي قبل انهياره وسقوط منظومة حلف وارسو، وهذا إيذان بعودة الحرب الباردة والصراع الذي بدأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945.
قال أحدهم فـي هذه الجلسة الفكرية والتحليلية، إن الحرب الشاملة بين هذه الأقطاب غير متوقعة لأسباب عديدة، منها أن كل الأطراف لا تريدها؛ لأن هذه الحرب فـي هذا العصر أصبحت حربًا تكنولوجية متقدمة وهائلة الخطورة، سواء كانت تقليدية بأسلحة الصواريخ والمسيّرات وغيرها من الوسائل الجديدة من التسليح التقليدي، أو تم الالتجاء إلى الأسلحة النووية التي يملكها كل الأطراف، والسلاح التقليدي قد يكون خطيرا من خلال سلاح له آثار يقترب من السلاح الذري فـي آثاره، لذلك الحرب الباردة وصراع المصالح وفـي مقدمتها الحرب الاقتصادية، وغيرها من الوسائل التي تسهم فـي الصراع المتعدد المجالات والوسائل التي كانت سائدة قبل سقوط الاتحاد السوفـييتي، التي لا شك أن الغرب الليبرالي يتفوق فـيه على المعسكر الآخر. فأحد الحضور فـي جلسة الحوار التحليلي، وافق المتحدث السابق المشار إليه، فـي جزئية قيام حرب باردة جديدة بين هذه الأقطاب كونها أخف الضررين والأقل تكلفة من الحرب الشاملة أو الساخنة، لو أراد أحد الأطراف قيامها، لكن بعض التحليلات ترى أنه لو كان هناك خطط غربية لتفكيك الاتحاد الروسي وحشره فـي زاوية ضيقة، كما حدث لألمانيا النازية، أو خطة للقضاء على قوته العسكرية أو النووية من خلال هذه الحرب فـي أوكرانيا، فإنه لا يستبعد قيام الرئيس «بوتين» بمغامرة فـي استخدام السلاح النووي أو التهديد به صراحة، إلا إذا اعترضت القيادات العسكرية الروسية على هذه الخطوة الخطيرة، حتى على مستقبل روسيا نفسها، فالغرب الرأسمالي قدرته كبيرة وضخمة فـي السلاح التقليدي والنووي، إلى جانب أن بعض الدول التي كانت ضمن منظومة حلف وارسو، تقع الآن فـي الاتحاد الأوروبي، وعلى مقربة من حدود روسيا الاتحادية، وهذه مشكلة عسكرية وسياسية وإستراتيجية لروسيا، لذلك الوضع ملتبس، وروسيا بدأت تعاني من هذه الحرب، وحتى أوكرانيا احتلت عدة مناطق فـي روسيا، وهذه إشكالية ليست سهلة لدولة كبيرة ومحورية فـي شرق أوروبا والشرق الآسيوي، لذلك لا بد من مخرج سياسي للحرب فـي أوكرانيا، يتم فـيه حلول مقبولة للطرفـين بعيدًا عن توسع الحرب وتحويل الصراع إلى حرب شاملة بين المعسكرين.
أحد المشاركين فـي جلسة الحوار التحليلية فـي مسألة الحرب الروسية الأوكرانية قال عن قضية بروز الحرب الباردة، التي قيل إنها انتهت بسقوط الاتحاد السوفـييتي ومعسكره فـي التسعينيات من القرن الماضي، يرى أن الحرب الباردة، لم تنته أبدًا بعد ذلك، بل عادت مرة أخرى مع الصين الشعبية وكوريا الشمالية وبعض الدول التي تلتقي معهما فـي المسار الفكري والسياسي، وإن بصفة أقل مما كانت عليه فـي الفترة السابقة، وقد أصبحت الصين - والصين لوحدها- تعدّ من الدول العملاقة الكبيرة فـي العالم، تكنولوجيا، وعسكريا، واقتصاديا، ثم عندما استعادت روسيا الاتحادية استقرارها السياسي والاقتصادي والعسكري، دخلت هذه الحرب الباردة بصورة وأخرى خاصة بسلاح النفط بالأخص مع الدول المستهلكة خاصة بعض دول الغربية والولايات المتحدة، كونها من اللاعبين المهمين فـي الساحة الدولية الآن، وإن كانت دخلت فـي صراعات مع بعض الدول التي كانت ضمن معسكر الاتحاد السوفـييتي آنذاك، لكنها نجحت فـي اقتصادها وحققت نجاحات داخلية عسكرية وتكنولوجية، فالحرب مع أوكرانيا واحتلالها بعض المقاطعات الأوكرانية، واعتبرتها ضمن الحدود الروسية، سوف تكون مثار مشكلة تحتاج إلى حلول سياسية وليست عسكرية كما أشرنا آنفًا.
أحد المشاركين فـي الجلسة الحوارية قال إن النظام الدولي الحالي، الذي حل بعد النظام القديم كما شيّد بعد هزيمة ألمانيا النازية ودول المحور، جاء بعده نظام للدول المنتصرة، ووضعوه وفق رغباتهم ومصالحهم، وأصبح نظامًا ظالمًا لحقوق الدول الأخرى التي ليست تابعة لأحد المعسكرين، وبعد سقوط المعسكر الاشتراكي فـي أوروبا الشرقية، أصبح النظام الدولي أحادي القطبية، وتسيطر عليه الولايات المتحدة (وحيد القرن)، لذلك أصبحت الولايات المتحدة تتخذ مواقف وقرارات وحروبًا خارج المنظمة الدولية، كما حصل فـي حرب عام 2003 باحتلال العراق، ثم قبل ذلك باحتلال أفغانستان فـي ديسمبر عام 2001. لذلك أصبح النظام الدولي غير مجدٍ وفاعل لحل القضايا الدولية الراهنة أو القديمة، من خلال قرارات عادلة ونافذة على الكل، والسبب أن الدول الكبرى وضعت لمصالحها تلك المنظمة كما تريد هي، ولا تخرج عنها، سوى بالتصريحات غير القادرة على التطبيق الفعلي من أمين عام المنظمة أو مساعديه الآخرين، ومن حق الدول أن ترفض أي قرارات غير عادلة أو منصفة للحقوق الإنسانية، فلو عدنا للوراء قليلًا حول قيام المنظمة الدولية ونظامها لوجدنا ـ كما يقول د. شفـيق المصري: «كل الأنظمة الدولية التي أقيمت كانت لأسباب الحروب والمغامرات الدولية، وكذلك كل الصيغ التي أوردتها ديباجة هذه القوانين هي شروط (فـــرض وليس اختيارًا مقنعًا، وهذا ما يفسر انهيار الكثير من الأنظمة ففـي عام 1815 فرضت الدول الأوروبية المنتصرة نظامها العالمي الذي تمثل بحفظ «المستاشكو» الأوروبي بعد مغامرات نابليون السياسية التي عصفت بأوروبا آنذاك. واستند ذلك النظام بصورة أساسية إلى (سياسية المؤتمر) بحيث احتفظت الدول الأوروبية الخمس بضبط أوروبا ومستعمراتها (بريطانيا، فرنسا، روسيا، بروسيا، النمسا) كما استطاعت أن تضبط الإمبراطورية العثمانية أيضًا».
ولذلك تميز هذا النظام الدولي، الذي تم تأسيسه آنذاك بعد الحرب العالمية الثانية كما أشرنا، بتكريس السيادة الأوروبية بتسخيره لمصالحها وأهدافها، دون أن يحقق العدل الذي قيل عنه فـي ديباجة تأسيسه وهو أنه سيكون نظامه مختلفًا عن منظمة (عصبة الأمم) التي أنشئت عام 1910، وانتهت بعد الحرب العالمية الثانية 1946، ولعل هذا ما يجعل المنظمة هامشية وضعيفة، ما يجعل الدول الأخرى لا تثق فـي هذه المنظمة، تجاه التوجه الدولي هو ازدواجية المعايير والمكاييل المتناقضة تجاه الكثير من المواقف والقضايا العالقة والخافتة فـي عالم اليوم، وهذا ما يجعل الحروب والصراعات، هي التي تتحرك للحلول بنفسها من أصحابها فـي العديد من المشكلات والتوترات فـي العالم، وهو ما يجعل الدول الكبرى تقف عاجزة عن اتخاذ الحلول، لكنها منحازة لهذا أو ذاك، والأزمات ازدادت والسلام المنشود بقى معدومًا فـي ظل ازدواجية المعايير والمقاييس المتناقضة.
ولا شك أن الصراعات بين الدول الكبرى، والاستحواذ على المصالح، وإثارة النزاعات بين أطراف الدول التي تنتمي للمعسكرين، كانت من أجل بيع السلاح، وفتح الأسواق للمصالح الأخرى التجارية والاقتصادية وغيرها من المصالح، وهذه التوجهات أسهمت فـي الحرب الباردة، وفـي زيادة الحروب التوترات والنزاعات، ومنها سباق التسلح، ولذلك تم إشعال عشرات الحروب، ودفعت الإنسانية ملايين القتلى والجرحى والمشوهين، وجلبت لهذه البلدان الفقر والدمار، والتخلف، ومئات المشكلات التي أصابت دولا كثيرة فـي كل القارات، ومنها لا يزال قائمًا حتى الآن! بسبب الحرب الباردة التي حولت دول كثيرة إلى حرب ساخنة ومشتعلة، واستمرت هذه الحروب حتى فـي فترة انتهاء الحرب الباردة، ومع الأحادية القطبية، الذي استأثرت به الولايات المتحدة، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، فـي أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
وانتهى النقاش فـي هذه الجلسة الحوارية التحليلية، إلى أن غياب العدل والإنصاف للحقوق الإنسانية، سيجلب المزيد من الحروب والتوترات والنزاعات، ولن تسلم منه حتى الدول الكبرى نفسها، من آثار هذه الحروب والنزاعات، والآن كما نقرأ ونسمع من الأخبار والتقارير، أن العديد من الدول الغربية تعاني أزمات اقتصادية كبيرة، وظهور جماعات وتيارات مناهضة للسياسات القائمة سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية ومنها الحركات «الشعبوية»، وهذا بلا شك انعكاس لما يجري فـي العالم، وبحكم أن عالم اليوم عالم متداخل ومتشابك المصالح، وإذا اختلت المعايير العادلة وتم تشجيع الحروب والصراعات، سوف يلحق منها بعض من أسهم دفع للآخرين لها، وكما جاء فـي الأثر العربي الإسلامي، أن (الاقتراب من نافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك أو يلحقك منه أذى من تأثيره بشكل أو بآخر)، ولذلك فإن تشجيع الحروب بدلًا من حلها بالشكل المنصف والعادل، ستجر على من يشعلها بشكل أو بآخر من آثارها، وإن تأخر هذا التأثير.. لكن ماذا عن فتنة المظالم التي لحقت بالشعب الفلسطيني، وأسهمت فـي تأثيره على جيرانه؟ وكيف بقي هذا الحق العادل مستبعدًا من الحل منذ 76 عامًا؟ وهذا ما نناقشه فـي العدد المقبل.
عبدالله العليان كاتب وباحث فـي القضايا السياسية والفكرية ومؤلف كتاب «حوار الحضارات فـي القرن الحادي والعشرين»