النجد مخزون نفط عمان الجديد

23 فبراير 2022
23 فبراير 2022

أستلهم فكرة عنوان المقال من تطور اتخذته مؤخرا وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، وهو اعتماد مكتب تطوير منطقة النجد الزراعية، كتقسيم إداري للوزارة، وجعله تابعا للوزير، ومنحه صلاحيات وطنية استثنائية، بهدف جعل منطقة نجد الزراعية بمحافظة ظفار سلة غذاء البلاد، وبصورة مستدامة، وعلى مدار العام، وهذا التطور يفتح الأبواب للاكتفاء الذاتي من الغذاء، ويدخلنا إلى عصر صناعة الغذاء، وهذا يظهر لي حجم الرهانات الوطنية المتجددة على النجد في محافظة ظفار، فخطوة الوزارة لها من الرؤيا الاستشرافية – كما ستأتي لاحقا - ما دفع بي إلى ذلك العنوان الذي يلامس التحولات في البلاد من جهة والأهمية الاستراتيجية للغذاء مستقبلا في ضوء تحديات عالمية.

وينبغي أن يكون طموحنا خليجيا في الوقت نفسه، فمصلحة البلاد أن يكون لها عمقا غذائيا في الخليج على وجه الخصوص يوازي عمق استثماراته الجديدة في بلادنا، فالمصلحة واضحة من هذا التوازن في الأعماق المشتركة، وهى مصلحة متعددة، لأنها ستقلل من التأثير السياسي الأحادي على صناعة القرار عوضا أن يكون العمق الاستثماري الخليجي من جانب واحد، وهذا عمق الوجود الغذائي العماني في الخليج له ما يبرره عملياتيا، أبرزها الفاتورة الغذائية الضخمة التي تدفعها سنويا كل دولة خليجية، والمخاطر المحدقة التي تصاحب الاستيراد، وعدم الاستدامته، والتأثير السياسي للغذاء.

وكذلك حجم السوق الخليجية الاستهلاكية الدائمة، حيث تبلغ قرابة الخمسين مليون نسمة، وبالسهولة الممكنة يمكن تستقطب بلادنا مستهلكين أخرين بسبب موقعها الجيوسياسي، وامتلاكها مواني عالمية تطل على أربع بحار مفتوحة، وبعيدة عن مناطق التوترات والنزاعات.

وهذا يعني أن كل الأسواق التي ستعتمد على الغذاء العماني، ستطمن على قضية الاستدامة مهما كانت التقلبات السياسية والتوترات والأزمات الإقليمية والعالمية، وتظهر مسقط هنا، كمصدر مضمون ومستدام للغذاء، ولنا في تحويل تجارة الخليج إلى ميناء صلالة للحاويات إبان الأزمات في الخليج، مؤشر على الاستدامة خاصة بعد أن تم إقامة ميناء الدقم على نفس البحار الأربعة المفتوحة، مما يدعم القطاع اللوجستي في البلاد. لأول مرة أرى في خطوة الوزارة البعد الاستراتيجي الذي من خلاله أدرجت الحكومة القطاع الزراعي والسمكي والحيواني ضمن خمسة قطاعات أساسية تعتمد عليها رؤية عمان 2040 في مجال تنويع مصادر الدخل.

وتتوقف طموحاتنا الغذائية الآن على قدرات وإمكانيات مكتب تطوير منطقة النجد الزراعية، فقد أسند إليه مهام وزارة كاملة، صحيح ليست العبرة بالأشكال، وإنما بالمحتوى والفعالية، لذلك يستوجب وبصورة عاجلة أن يزود المكتب بالخبرات والقدرات الفنية والتخصصية والموارد المالية حتى يتمكن من تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى في الآجال الزمنية المحددة من الآن ووفق خطة خمسية محددة النتائج لضمان الغذاء على نحو مستدام، وفي المتناول.

وقد أنيط بالمكتب المهام الوطنية الكبرى الآتية:

- تنظيم وإدارة منطقة النجد بظفار "زراعيا ومائيا" واستخدام الممارسات الفضلى لرفع العائد الاقتصادي للمزارعين بهدف سد الفجوة في الأمن الغذائي، ومواءمة ذلك مع رؤية البلاد 2040.

- تطوير البرامج الرامية للنهوض بالثروة الزراعية وموارد المياه من خلال التخطيط الاستراتيجي وتوظيف السياسات الملائمة، وتطبيق أفضل الحزم التقنية المتكاملة للمشروعات الاستثمارية.

- إعداد خارطة استثمارية متكاملة لمنطقة النجد تحدد المناطق الواعدة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وإنشاء قاعدة بيانات شاملة، وإشراك الجمعيات الزراعية في البرامج والسياسات المقترحة.

- والإشراف على المختبرات بمنطقة النجد لضمان جودة المنتجات الزراعية، والإشراف على جميع الأعمال المتعلقة بالاستثمار والإنتاج والتسويق، والتنسيق المباشر مع مختلف الجهات.

- ويرجع للمكتب توزيع الأراضي التي تخصص للاستثمار الزراعي الاستراتيجي للقطاعين الخاص والأجنبي، وهنا تأتي أهمية إشراك الجمعيات الزراعية في السياسات والخطط الزراعية في النجد، وذلك حتى لا يكون استثمارات الشركات الكبرى على حساب المزارعين العاديين الذين اثبتوا قدرتهم وجديتهم في زراعة صحراء الربع الخالي بإمكانياتهم المتواضعة جدا.

- ويتولى المكتب تمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والجمعيات الزراعية للاستفادة من الفرص الاستثمارية المتاحة، وهذه مسألة فيها من الاستشراف ما يجعلنا نستنطقها هنا بصوت مرتفع، فهي تدير من الآن كسر احتكارات شركات الغذاء مستقبلا، حتى يكون الغذاء في متناول الكل.

ومن خلال هذه المهام الكبرى، يتضح ما أطالب به للمكتب من إمكانيات وقدرات وموازنة.. فهو الآن مسؤول مباشرة تحت إشراف الوزير على ضمانة الإنتاج "كمية وجودة" وفي كل الأزمنة، ومهما كانت الظروف الإقليمية والدولية، ولدي تفاؤل موضوعي بالنجاح، فقد لمست إرادة غير مسبوقة في الرهان على النجد زراعيا حتى قبل خطوة الوزارة سالفة الذكر، ومعطيات هذا التفاؤل أبنيها حصول الموافقة على إقامة المركز المتكامل لتجميع وتسويق.. المنتجات الزراعية من قبل وزارة الاقتصاد وإحدى شركات النفط، وهو الآن في طريق استكمال المركز، وتحديد مسار طريق للمنطقة اللوجستية يختصر المسافة من أكثر من "90" كيلومتر إلى "44" كيلومتر وبصورة مباشرة، وذلك عن طريق ربط منطقة شصر بسيح الخيرات... إلخ.

وقد كان هذا المركز والطريق من كبرى التحديات لمزارعي النجد، فبعد نجاح جهادهم الطويل في الإنتاج، تظل منتجاتهم عالقة بين الفقد، وما أكثره، وبين تسويق القليل منها.. والآن فهذا المركز هو أمل كل مزارع، وسيحدث نقلة في الإنتاج الزراعي، وينبغي هنا أن نقيم حصيلة إنتاج النجد لنرى مدى التطور الإنتاجي بعد هذه التطورات، فالنجد قبلها وبجهود المزارعين المتواضعة، قد أصبح ينتج القمح بكميات تصاعدية ملموسة، وتأمين الكثير من المنتجات الزراعية، مثل البطيخ والشمام والتمور والحشائش وبعض الخضروات باستخدام البيوت المحمية، ويتم تصدير بعضها لمنطقة الخليج العربية، وكنت قد كتبت عدة مقالات عن النجد الزراعي، وندعو الرجوع إلى إحداها كتبته في جريدة عمان في السابع من ابريل 2021 بعنوان الرهانات الوطنية تتجدد على النجد الزراعي في محافظة ظفار للوقوف حجم وماهية المنتجات الزراعية التي أصبحت تغذي سوقنا العماني، وتصدير الفائض منها للأشقاء في الخليج.

والتحدي الأكبر الآن يكمن حول أحداث الفارق في الإنتاج بعد إقامة المكتب، فهو مطالب باختراق النسب المئوية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي على مدار العام، والتصدير نحو الخليج بطريقة اقتصادية. الجهود في الدولة ينبغي أن تسابق الزمن لكي تجنب بلادنا الصدمات الغذائية، وما أكثر ما يتوقعونها، سواء على صعيد الطلب على الغذاء، أو الصراعات والتوترات السياسية والعسكرية، أو التغييرات المناخية، سنستشهد هنا برؤيتين، الأولى على الصعيد السكاني/ الديموغرافي، فالتوقعات تشير إلى أن سكان العالم سيزدادون من سبعة مليارات نسمة حاليا، إلى ثمانية مليارات بحلول 2030، وسوف يتجاوز على الأرجح التسعة مليارات نسمة بحلول 2050.

وعلى صعيد الحروب، فلنتصور – لا قدر الله – إذ قامت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فهذا سيحدث أزمة جوع عالمية، سيتضرر بها العالم، بما فيهم العرب، فموسكو تحتل المرتبة الأولى في إنتاج القمح، وأوكرانيا المرتبة الأولى في صادرات الحبوب، وتخطط في العام الحالي 2022 إلى المرتبة الثانية في القمح، والرابعة في الذرة، فكيف لو غزت موسكو كييف، وفرض الغرب عقوبات على موسكو؟ لذلك لا خيار لبلادنا في كل الظروف سوى إحداث الثورة الزراعية في النجد، حيث يظهر الآن، بانه مخزون نفط عمان الجديد، وهو الغذاء، فمستقبل الغذاء سيكون أغلى من النفط، لذلك فهو بديل النفط عالميا، وعمانيا، فقطاع الزراعة يندرج ضمن خمس قطاعات بديلة للنفط في رؤية عمان 2040، فتتكاتف كل الجهود من أجل جعل النجد سلة غذاء الخليج.

• عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي