النجاة من «فقاعة الدوت كوم»
عندما يأتي الحديث عن الابتكار التحويلي الذي يُعيد صناعة المشهد التقليدي للخدمات أو المنتجات، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو البحث عن قصص النجاح والتعلم منها، وهو بالفعل مصدر من مصادر استلهام الأفكار الجديدة، ولكنه في الوقت ذاته قد يحد من إنتاج الأفكار الإبداعية بإعادة توجيه التفكير إلى المسارات التقليدية نفسها للنماذج الناجحة، ولذلك فإن اختيار الابتكار التحويلي يتطلب مهارات عديدة، أهمها التوازن بين إدارة المخاطر وروح المبادرة والتجديد. والسؤال هنا، ما مفاتيح الوصول إلى القدرة المحورية لصناعة الابتكار التحويلي في حدود المخاطر المحسوبة؟
في البدء تعالوا نتعرف على أبرز قصص نجاح الابتكار التحويلي في وقتنا الحالي، وتأتي شركة نيتفليكس (Netflix) في المقدمة، حيث كانت خدماتها في البث الرقمي المباشر من أهم وسائل الترفيه المنزلي خلال فترات الإغلاق لجائحة كورونا، والتدابير الاحترازية التي أوقفت معظم المرافق الترفيهية مثل دور السينما والمجمعات التجارية والحدائق العامة وغيرها، وأصبحت نيتفليكس منصة البث الأكثر انتشارا في مختلف دول العالم أثناء الجائحة، ونجحت الشركة في إضافة ملايين المشتركين، وأصبحت قوة اقتصادية لا يُستهان بها من حيث اتساع القاعدة الجماهيرية، وارتفاع حجم العوائد المالية، ولكن كل ذلك لم يأت بالمصادفة، فنجاح نيتفليكس يعود إلى الفكر التحويلي لمرحلة بداية التأسيس في عام 1998م، وحدث ذلك في خضمّ ما أطلق عليه آنذاك «فقاعة الدوت كوم»، وهو تعبير مجازي عن حالات الفشل المتتابعة التي لحقت بالشركات مع بدء بيع السلع الاستهلاكية والخدمات عبر الإنترنت.
ظهرت نيتفليكس في قطاع صناعة الترفيه المنزلي كشركة ناشئة وقائمة على ابتكار موجه لتطوير نموذج الأعمال، وهو ابتكار خارج عن النهج التقليدي للعملاق الراسخ في قطاع الترفيه المنزلي بالولايات المتحدة الأمريكية والمتمثل في شركة بلوك باستر (Blockbuster)، ولم يرتبط النموذج الابتكاري لنيتفليكس في نشأته بشكل مباشر بالإنترنت، ولكنّه أحدث اضطرابا كبيرا في نموذج الأعمال السائد في سلاسل تأجير أقراص الدي. في. دي (DVD)، حيث كانت شركة بلوك باستر تتيح للزبائن هذه الأقراص في المتجر، وتفرض رسوما على تأخير إعادتها في الوقت المحدد، وغالبا ما كانت هذه الرسوم تمثل جزءا كبيرا من إيراداتها، أما شركة نيتفليكس التي لم تكن تمتلك متجرا، فقد قامت بتوفير خدمة توصيل الأقراص عبر البريد، وقامت بإلغاء رسوم التأخير تماما، ومنحت الزبائن حافز العودة؛ وهو عرض الوصول إلى قرص آخر، فبدأ الإقبال على هذا العرض مما أتاح الانتشار لنيتفليكس، وفي المقابل، التزمت شركة بلوك باستر بنموذجها في العمل ظنا منها أن الشركة الناشئة سرعان ما تبتلعها فقاعة الدوت كوم، ولن تصمد طويلا، ولكن هذه التكهنات لم تصدق.
في الواقع، واصلت نيتفليكس صعودها، ومع كونها إحدى الشركات الناشئة في وادي السيلكون فقد تمكنت من التوظيف الذكي للتقنيات التكنولوجية ليتحول نموذج عملها من الشحن بالبريد إلى إتاحة أقراص الفيديو رقميا عبر الإنترنت، ثم التحول التاريخي للبث المباشر، وأخيرا الدخول في قطاع إنتاج المحتوى وتحدي استوديوهات هوليوود العريقة، وهذا لا يعني أن مسيرة الشركة كانت مفروشة بالورود، ولكنّ القادة التنفيذيين امتلكوا مهارات استشراف ملامح المستقبل، وبناءً عليه قاموا بتوجيه الابتكار ضمن حدود المخاطر المحتملة، وهذا ما منحها ميزة الاستباق، وعندما حاولت شركة بلوك باستر عام 2005م محاكاة نموذج نيتفليكس بإلغاء رسوم التأخير لم تنجح؛ لأن هذا التغيير كان بمثابة التحول في عنصر واحد من منظومة جامدة وتقليدية، كما أن هذه الخطوة قد جاءت متأخرة في جميع الأحوال، لأن نيتفليكس كانت حينها قد عبرت عدة موجات من الابتكار، فالتحدي الكامن الذي واجهته شركة بلوك باستر التي كانت يوما مهيمنة على قطاع الترفيه المنزلي هو عدم إدراكها لقوة التجديد في وقت مبكر، والتحفظ الكبير الذي انتهجته خوفاً من فقاعة الدوت كوم، وغيرها من مخاطر الابتكارات التحويلية مما حال دون المبادرة في إعادة اختراع نموذج أعمالها لمواكبة التحولات التكنولوجية.
فإذا نظرنا إلى بداية نيتفليكس نجد أنه كان من السهل على المؤسسين حينها أن يحجموا عن دخول القطاع الذي تتربع فيه شركة بلوك باستر، أو في أقل تقدير أن يبحثوا عن ابتكارات محدودة في سلسلة التوريد للحصول على حصة سوقية متواضعة بدلا من منافستها بنموذج عمل ابتكاري يختلف جذريا عن واقع الحال في ذلك الوقت، ومع وفرة الدراسات والتحليلات التي تناولت نيتفليكس كتجربة رائدة في الابتكار التحويلي، وقدمت تفسيرات عديدة حول قدرتها على الصمود أمام التغييرات التي رافقت مرحلة التأسيس، إلا أن أساس نجاحها كان في المبادرة بتحديد نموذج أعمال غير مسبوق بغض النظر عن تفوق الشركات التي كانت تهيمن على القطاع بنماذج أعمال مغايرة لها، وهذا هو العامل الحاسم في بناء ميزتها التنافسية التي قامت على الملاءمة الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية.
وإذا أسقطنا محاور قصة نيتفليكس على واقع المبادرات الابتكارية سنجد أنها جميعها تتماثل ولكن مع اختلاف في التفاصيل؛ لأن التحدي الأكبر الذي يواجه جميع المبتكرين الناشئين هو تحديد الخط الفاصل بين الابتكار التحويلي الطموح وبين المخاطرة البحتة في ريادة الأعمال، وذلك يستوجب الإدراك بأهمية تعزيز الأفكار الكبيرة ذات التأثير التحويلي بأدوات التكنولوجيا والبيانات، فقوة الأفكار وروح المبادرة لا تكفيان لوحدهما في إنجاح الأعمال، ولكن يجب أن يكون الأصل في التطوير والتجديد هو إطلاق العنان في تخيل المستقبل واستشرافه، دون التقيد بالمعرفة الراهنة، وكل النجاحات الماضية، ولكن مرحلة التنفيذ تتطلب الدقة في اختيار الخطوات التي تؤدي إلى ترجمة الأفكار الابتكارية إلى واقع ملموس في الخدمات أو المنتجات أو نماذج الأعمال، وذلك بالمحافظة على استدامة التطوير والتجديد بشكل مرحلي وتراكمي، فصناعة الابتكار التحولي في عالمنا الرقمي تتطلب سرعة المواكبة، والبحث عن فرص تنافسية خارج الأطر المألوفة، مع بناء القدرة الانسيابية على التنفيذ والابتكار في ذات الوقت.