الموت والوجود (أُنطولوجيا الموت)
الكلام عن أُنطولوجيا الموت هو كلام عن الموت من حيث هو ظاهرة كلية عامة فـي الوجود، وليس من حيث هو ظاهرة يمكن أن يعيشها أو يعانيها الفرد فـي تجربة الحياة. ولا شك فـي أن الكلام عن الموت بهذا الاعتبار يبدو كلامًا خارج السياق فـي هذه الآونة التي يموج فـيها العالم بأحداث كبرى تؤثر فـي مجريات الواقع وتستدعي التأمل؛ ولذلك فإن دوائر السياسة والإعلام والصحف تنشغل فـي هذه الآونة برصد الصراعات والحروب التي لا تهدأ فـي عالمنا، فضلًا عن رصد وتحليل تبعات عودة الجمهوريين برئاسة ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر تأثيرًا فـي الأوضاع والسياسات العالمية. ومع ذلك، فإننا فـي خضم هذه الحقائق والأحداث الواقعية الجسام ننسى أو نتناسى أن الموت يظل هو الحقيقة اليقينية الكبرى، ليس فقط على المستوى الوجودي، وإنما أيضًا على المستوى الواقعي فـي عالمنا الراهن: فالموت يطل برأسه يوميًّا ليحصد الأفراد والجماعات فـي الصراعات والحروب، حتى باتت مشاهد الموت مألوفة فـي كل لحظة من لحظات حياتنا اليومية، وكأننا أمام حالة من صناعة الموت بفعل القتل والعدوان، ويكفـي أن نشاهد يوميًّا آلة القتل الإسرائيلية التي ترتكب مذابح قتل الفلسطينيين وغيرهم. وبذلك فإن حضور الموت الدائم يفرض نفسه علينا ويدعونا إلى تأمله. لنـتأمل أولًا معنى الدلالة الأُنطولوجية للموت: يصف هَيدجر الوجود الإنساني بأنه وجود من أجل الموت أو -على الأدق- وجود متجه نحو الموت Zein zum Tode، وهو لا يعني بذلك أن الموت يمثل نهاية أو نقطة وصول نهائية لمسار الحياة؛ فالموت لا يشبه سقوط ثمرة بلغت تمام نضجها بعد مسار نموها، كما صوره ماركوس أوريليوس: فلو تصورنا الحياة باعتبارها مسارًا، وتساءلنا: أين يقع الموت على هذا المسار؟ فسنجد أن الموت لا يقع عند نقطة محددة من هذا المسار، بل يمكن أن يقع عند أية نقطة من هذا المسار باعتباره إمكانية دائمة كامنة فـي قلب الوجود. لا يعي الحيوان وغيره من الكائنات الحية هذه الحقيقة؛ لأن الحيوان لا يعرف الموت إلا فـي اللحظة التي يكون فـيها مهددًا بالموت، أما الموجود البشري فإنه يعي حقيقة الموت باعتباره متأصلًا فـي ماهية وجوده، أي باعتباره موجودًا متجهًا باستمرار نحو الموت؛ وهذا هو الأصل فـي الوعي بالزمانية والتناهي، وهو أيضًا سر من أسرار القلق الوجودي العميق المتأصل فـي طبيعة الموجود البشري الذي يعي معنى وجوده. هذا فحوى ما يريد هيدجر قوله، وهو بلا شك حقيقة يقينية لا مراء فـيها. ومع ذلك فإننا لا يمكن أن نكتفـي بهذه الحقيقة فـي فهمنا لماهية الوجود الإنساني: حقًّا إننا نعي -أو ينبغي أن نعي- وجودنا باعتبارنا موجودات زمانية متناهية، ولكننا أيضًا لا ينبغي أن نكتفـي بفهم وجودنا باعتباره «وجودًا من أجل الموت» أو «وجودًا متجهًا نحو الموت: فنحن، وإن كنا موجودات متناهية، فإننا لم نُوجد بهذا الاعتبار وحده، أعني أننا لم نُوجد لكي نموت، وإنما لكي نبقى، على الأقل إذا كنا نريد أن نحيا كموجودات حقيقية. فما معنى أن نبقى، وعلى أي نحو يمكن أن نبقى؟ من البديهي أن البقاء هنا لا يعني عدم الموت، وإنما يعني البقاء رغم الزوال والتلاشي وفـي مواجهته، فمن دون ذلك يصبح الوجود الإنساني أشبه بالوجود الحيواني، أعني يصبح وجودًا متلاشيًّا لا يبقى منه شيء فـي هذا العالم من بعد زواله؛ ولذلك فإننا نصف الحيوان الذي انتهى أجله بأنه «قد نفق»، بينما نصف الموجود البشري الذي انتهى أجله بأنه «قد مات»؛ لأن الموت ليس «نفوقًا: أو تلاشيًا من الوجود؛ لأن الموجود البشري يمكن أن يظل باقيًا وحاضرًا فـي الوجود بعد مماته عبر قرون، بل عبر آلاف السنين. فعلى أي نحو يمكن أن يبقى الموجود البشري؟ يبقى الموجود البشري على أنحاء عديدة، من خلال الأفعال التي يقوم بها والأشياء التي يبدعها لتبقى بعد مماته: قد يتمثل ذلك فـي موته دفاعًا عن مبدأ أو قيمة عليا، وهو ما يتبدى فـي سير الأبطال والشهداء العظام التي تبقى عبر الأجيال، وفـي إبداعات الأفراد وصروح الحضارات ومنجزاتها التي تبقى شاهدة على حضور أصحابها فـي التاريخ. وربما أمكنني القول فـي النهاية: إن إبداعات الوجود الإنساني على مستوى الأفراد والأمم تنبع من دافعية أنثروبولوجية عميقة نحو البقاء، من دونها يصبح الوجود الإنساني عابرًا متلاشيًا. |