المواطنة في ظل الأزمات

19 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024

تظهر المواطنة باعتبارها قيمة إنسانية في تلك المجتمعات التي تتميَّز بتجانس اجتماعي بين أفرادها على تنوعهم وتنوُّع ثقافاتهم، إلاَّ أنهم يحرصون على انتمائهم الوطني، وتلاحمهم وقدرتهم على المشاركة فيما يخص أوطانهم من خلال التعاون والتكامل من أجل تحقيق الأهداف الوطنية التي ينشدها مجتمعهم. إنها تلك المواطنة التي تجعل الأفراد مدركين لحقوقهم وملتزمين بواجباتهم تجاه وطنهم.

وعلى الرغم من أن المواطنة في عمومها تدُّل على مفاهيم الحقوق والواجبات والوعي بها من قِبل المواطن، وضمان منح تلك الحقوق للمواطن من قِبل الحكومات، إلاَّ أن هذا لا يعبِّر سوى عن الأساس الذي تنطلق منه المواطنة؛ ذلك لأنها تبرز على المستوى الأعمق في ذلك السلوك الذي يُظهره المواطن الحق تجاه وطنه أو مجتمعه على المستوى المحلي أو الإقليمي أو حتى العالمي. إن قدرة المواطن على تطوير أنماط علاقته بمجتمعه تندرج ضمن المستويات العليا من المواطنة التي تظهر فيما يقدمه من مبادرات في عمله أو في مشاركته في البرامج المجتمعية المدنية.

لقد اعتمد مفهوم المواطنة على (المشاركة) في المشروعات التنموية في الوطن، وهو مفهوم يرتبط بأنماط المشاركة المختلفة سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك؛ حيث تبدأ بالمشاركة في التخطيط والتنفيذ والمتابعة، ولهذا فإن المواطنة الحقة هي تلك التي تقود الأفراد إلى فعل التشاركية، وتعزِّز أهميتها وجودتها واستدامتها خاصة في المبادرات والبرامج التنموية التي تستهدف التطوير المجتمعي أو تلك التي تمس أنماط الحياة.

إن فعل (المشاركة) هنا يقتضي إشراك أفراد المجتمع في صنع القرارات، باعتبارها وسيلة تجعلهم متحملين لجزء من نتائج تلك القرارات، وبالتالي فإنه فعل يقوم على المشاركة المباشرة لأصحاب المصلحة من أفراد المجتمع ليقدموا ما يستطيعون من خبراتهم ومعارفهم من أجل صناعة قرار وطني يقود إلى المصلحة العامة، فهذه المشاركة تعبِّر عن قدرة المواطنين على اتخاذ نهج وطني واضح في صنع القرارات من ناحية، واتباع أفضل السبل التي تضمن شفافيتها من ناحية أخرى.

الأمر الذي يعكس الوعي المتزايد في الدول بأهمية إشراك المواطنين في صنع القرارات، وأنماط الشفافية التي تمارسها، والتي تُسهم في توسيع آفاق المشاركة، والفهم المتجدِّد والمرن لأهمية ربط التنمية بقدرة أفراد المجتمع على المشاركة في الفعل التنموي، والذي لا يقوم على التنفيذ وحسب بل يبدأ بالتخطيط ولا ينتهي عند صنع القرار، بل يستمر بالمتابعة والوعي بتطويره وتغييره وفقا لتطورات المجتمع وأهدافه وتطلعاته المستقبلية.

لقد تطوَّرت المواطنة وفقا لتطلعات المجتمع، حتى أصبحت أكثر مرونة وحيوية وقابلة للتشكُّل، وهذا ما يظهر دوما في أوقات الأزمات؛ فإشراك المواطنين في التنمية وصناعة القرارات خاصة تلك التي تؤثر على أنماط حياتهم ومستقبلهم، يجعلهم أكثر دافعية نحو المشاركة والتعاون بل والدفاع عن أوطانهم خاصة في أوقات الأزمات والتحديات التي قد تطرأ على المجتمع، وهي أوقات يكون فيها فعل المواطنة البطل الحقيقي الذي يتجلى وفق متطلبات المرحلة.

ولهذا فإن ما نشهده دوما في عُمان من حِراك مدني تطوعي خلال الأعوام، وما تقدمه مؤسساته من مبادرات داعمة للمجتمع واحتياجاته وأولوياته، نجدها بارزة جليَّة أيضا في تلك الاستعدادات التي تسبق الأزمات خاصة التأثيرات المناخية المحتملة جرَّاء الأنواء المناخية، الأمر الذي يُظهر مشاركة المواطنين في حماية مجتمعهم وقدرتهم على تمثيله وفق متطلبات الموقف، فمن خلال هؤلاء المواطنين ينكشف جوهر المواطنة الحقة الإيجابية التي تسعى على الدوام إلى المشاركة والتعاون والدعم المستمر.

إن المواطنة عملية بناء مستمر تعتمد على الإعمار والتفاهم والمشاركة والتعاون، ولهذا فإنها لا تعبِّر عن نفسها في أوقات الرخاء وحسب، بل تتجلى في أوقات الصعاب والأزمات، ولعل فاعلية المواطنة الإيجابية تتخذ مجموعة من الأنماط التي تتكامل مع دول الحكومة وتقدِّم عمليات ديناميكية تعزِّز التواصل المفتوح بين أفراد المجتمع وترسِّخ مبادئ الفكر الوطني القائمة على التعاون والتكامل، وهذا ما نشهده من تفاعل مجتمعنا وتكامله فيما يقدِّمه من دعم وطني يشهد له العالم.

لقد قدَّم أفراد المجتمع سواء من خلال المبادرات الفردية أو برامج الجمعيات المدنية مجموعة من أنماط التشارك والتعاون أثناء الأنواء المناخية الأخيرة (منخفض السيَّال)؛ بدءا من برامج التوعية لأفراد المجتمع وليس انتهاءً بتلك المشاهد التي جسَّدت التعاون بين المواطنين والمؤسسات الحكومية التي قدَّمت أسمى صور التضحية من أجل الحفاظ على سلامة أفراد المجتمع وحماية ممتلكاتهم، ومكتسبات الدولة، وهي مشاهد نجدها حاضرة في كافة ربوع الوطن ومحافظاته، الأمر الذي يقدِّم المواطنة بتجليها وإمكاناتها التي تربى عليها أفراد المجتمع، ودعمتها الدولة من خلال الإشراك وفعل الشفافية الحرة.

فمشاهد ذلك التلاحم والتشارك بين الحكومة والمواطنين لا يعبِّر عن الوعي وحسب، بل عن تلك المواطنة التي تُعد روح المجتمع ونبضه الدائم؛ فالمواطنة سلوك وقيم تتجلى في صور الدعم والمساندة والتعاون المشترك بين أفراد المجتمع ومؤسساته الحكومية والخاصة والمدنية، والتي تكشف أنماط الانتماء الوطني والإيثار الذي يجعل المجتمع منتظما في وحدات فاعلة، تولِّد آليات مشاركة تقوم على ما يسمى بـ (التنظيم الذاتي) الهادف إلى حماية المجتمع بوصفه قوة.

إن إيمان الدولة بأهمية إشراك المواطنين في الفعل التنموي بمراحله المختلفة، ينمي لديهم الانتماء إلى وطنهم باعتبارهم جزءا أساسيا وفاعلا فيه، الأمر الذي يدفعهم دوما إلى المشاركة الإيجابية والمساهمة الجادة في العمل المجتمعي في كافة القطاعات، فهم يعملون بدافع ذلك الانتماء، ويشاركون عن قناعة بأهمية المشاركة والتعاون لأنهم يتحملون نتائج التخطيط والتنفيذ واتخاذ القرارات، وبالتالي فإنهم أيضا يقبلون على تبني العديد من المبادرات التطوعية، ويضحوُّن من أجل مجتمعهم، انطلاقا من ذلك الفكر نفسه.

فالمواطن الحق يتميَّز بالإيجابية والمرونة والقدرة على تمثيل فكر مجتمعه، ولهذا فإن إشراكه الفاعل في حالات الرخاء والأزمات، يجعله متكامل مع فكر مجتمعه ويسعى دوما إلى إيجاد فرص الربط والتعزيز للأدوار التي تقوم بها الحكومة، ويقدِّم بذلك تصورات مرنة لما يُسمى بـ (التعبئة المعرفية)، التي تعتمد على الوعي التام بدوره التنموي والمعرفي في وطنه، و دوره الفاعل في حماية أفراد مجتمعه وحماية مكتسبات وطنه، فهو مواطن يتصف بالمرونة التي تأهِّله ليكون قادرا على مواءمة التحولات المعرفية الطارئة مع ثوابته الثقافية والحضارية التي يتميَّز بها المجتمع.

إن تلك التعبئة المعرفية لا تتوقف عند الوعي والفهم وحسب بل تظهر سلوكا فاعلا إيجابيا في المشاركة والتعاون والعمل الجاد الهادف إلى تطوير المجتمع وتنميته بالمعارف والتجديد والبناء، وهي بذلك ليست طارئة بل مستمرة ومرنة، تتشكَّل وفقا لمتطلبات المرحلة التي يمر بها المجتمع. إنها المواطنة التي يُظهرها المواطن في تعاونه وتشاركه ودعمه لوطنه، وتتجلى بشكل واضح في كل الأزمات الطارئة التي مرَّ بها المجتمع، وهي تكشف على الدوام ذلك الوعي الذي يتنامى ويتطوَّر مع الإدارة الحكيمة من لدن الحكومة لتلك الأزمات.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة