المهازل في مواقع التواصل

02 أغسطس 2022
02 أغسطس 2022

مواقع التواصل الاجتماعي- وعلى رأسها "الفيس بوك"- ثمرة عظيمة من ثمار التكنولوجيا؛ لأن هذه المواقع تعمل بالفعل على تسهيل عملية التواصل بين الناس، ومن ذلك على سبيل المثال: التعرف على الأخبار والأحداث المهمة والعاجلة، وتداول الأفكار والمعلومات، بل تداول المشاعر الحميمة بين الناس، وما إلى ذلك. ولكن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في كثير من بلدان عالمنا العربي قلَّما يكون موجهًا من أجل هذه الغايات، وتغلب عليه ظواهر مرذولة لا صلة لها بالمعرفة أو القيمة أو الأخلاق عمومًا، وهي الظواهر التي سأحاول الكشف عن شيء منها في هذا المقال بشكل مباشر ومن دون تقعُّر.

تحولت مواقع التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي إلى منصات للشتائم المتبادلة أو التعريض بالآخرين. وفي أحسن الأحوال تصبح هذه المواقع مجالًا يستعرض فيه المرء إنجازاته ولو كانت تافهة لا تستحق ذكرًا، أو تستعرض فيه بعض النساء مفاتنها ولو كانت مزيفة! كما أن موقع الفيس بوك في عالمنا العربي قد تحول إلى سرادق عزاء ومواساة زائفة. فمتى وَلجَت إلى عالم الفيس بوك ستجد أشخاصًا ينشرون خبرًا عن وفاة شخص آخر ليس له أهمية أو مكانة عند الناس، شخص لا يعنيك ولا يعني غيرك وإنما يُعني صاحبه وحده: ستجد شخصًا يعلن أن ابن عمه أو زوج عمته – على سبيل المثال- قد تُوفيّ اليوم! يعرف الشخص السوي أن الناس لا شأن لها بهذا؛ لأن هذا أمر يخص الأهل والأصدقاء المقربين في الواقع الحقيقي لا الأصدقاء عبر العالم الافتراضي، ولكنه سيكون لزامًا عليه أن يقول كلمة ما على سبيل المجاملة.

وكلما دخلت إلى عالم الفيس بوك ستجد شخصًا ما ينشر خبرًا عن حالة مرضية ألَّمت به ولو كانت طفيفة: فهذا ينشر صورة لجرح أصاب عضوًا من أعضاء بدنه، ولو كان جرحًا في إصبعه؛ وذاك ينشر خبرًا عن وعكة صحية عابرة ألمت به. لا يعرف هؤلاء أن الألم يظل معاناة شخصية؛ فنحن نعاني الألم والموت وحدنا، وهي حالة لا يمكن أن يشاركنا فيها حقًّا إلا قلة قليلة من البشر ممن يشكلون جزءًا أصيلًا وحميمًا من وجودنا. وبالتالي فإن إعلان الألم على الملأ ليس سوى محاولة لاستجداء التعاطف والمزيد من المشاركات من خلال شعور مزيف. ولذلك فإنني على قناعة بأن الشخص الذي يعلن على الملأ عن آلامه الخاصة به هو شخص لا يعاني الألم حقًّا.

كما أن هناك حالة من النفاق الاجتماعي المقترن بحالة من السطحية البالغة في مواقع التواصل الاجتماعي، ويكفي أن ننظر إلى كم الإعجاب والتعليقات على خبر ينشره أستاذ جامعي عن زيارته لأوروبا أو عن اختياره لعضوية لجنة من اللجان أو عن تجديد عقده في منصب ما ولو كان منصبًا تافهًا. يحدث هذا من دون أن يتساءل أحد من هؤلاء المعجبين عن القيمة العلمية لما أنتجه من ينشرون هذه الأخبار على نحو موثق في المجلات العالمية المرموقة. أما إذا كان الخبر المعلن يتعلق بخبر فضائحي، أو بنجم من نجوم التمثيل والغناء، فإن كم المشاركات والتعليقات سيكون بلا حدود، حتى لو كان هؤلاء النجوم من أمثال نجوم الفن الرديء وأغاني المهرجانات في عالمنا العربي، وفي مصر خاصةً. هذا هو حال الفيس بوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي. ومن شاء برهانًا عمليًّا على ذلك، فلينشر باسم مستعار فقرة من كتابات آينشتاين أو كانط أو هايدجر، ولينظر بعد ذلك في كم المعجبين بهذه الفقرة، والأرجح أنه لن يجد إلا أقل القليل من المعجبين أو لن يجد شيئًا على الإطلاق.

وأود أن أصارح القارئ بشيء من نفسي، وهو أنني أصبحت أشعر بحالة من الرهاب من عالم الفيس بوك. فكلما دخلت إلى هذا العالم أجد نفسي مشتتًا، مطالبًا بالرد على كل ما يرد إلي من باب اللياقة، وتأملت حال الجالسين ساعات طويلة يوميًّا من أجل التواصل عبر الفيس بوك وغيره من مواقع هذا العالم الافتراضي: فما الوقت الذي يتبقى لهم لكي يبدعوا أو ينتجوا في دنيا الواقع شيئًا له قيمة ما؟ لذلك فقد عقدت العزم على عدم التواصل مع العديد من هذه المواقع إلا في أضيق الحدود. أما بعض أصدقائي من كبار الفنانين والمفكرين والعلماء، فقد لجأوا إلى حيلة مختلفة للحفاظ على هدوئهم النفسي؛ إذ أنشأوا لأنفسهم جماعات خاصة أشبه "بجيتو العالم الافتراضي"، لا يدخلها إلا من هم على المستوى نفسه من التجانس في الإبداع والفهم والرؤية.

إذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي هي ثمرة من ثمار التكنولوجيا، فإن التكنولوجيا تظل في النهاية أداة محايدة يمكن استخدامها في نفع البشر أو فيما يضرهم ويسيء إليهم (مع الأخذ في الاعتبار أنني أتحدث هنا عن استخدام البشر للتكنولوجيا، وليس عن استخدامها من جانب الدول التي تتبنى سياسات عدوانية). ويمكننا أن نلاحظ بوجه عام أن الذين يسيئون استخدام التكنولوجيا هم الذين لا ينتجونها، وأظن أن تلك ملاحظة تستحق التأمل. وبالتالي، فإنه مما يستحق التأمل أيضًا النظر في العلاقة التناظرية بين إساءة استخدام مواقع التواصل وبين تدني المستوى الثقافي والمعرفي في مجتمع ما. وليجتهد في ذلك الباحثون بالتشخيص والتحليل، لتبصير الناس بعلة الداء؛ لعل ذلك يسهم- على الأقل- في التعرف على سوءات مسلكهم، فيروضوا أنفسهم على اجتنابها ما أمكن ذلك.