المقاومة عقيدة والعقيدة لا تموت
اختصرَ مشهدُ استشهادِ القائد يحيى السنوار كلَ مفرداتِ المقاومة وعقيدتها الراسخة، وأيقن الكيانُ الصهيوني أنّ السنوار هزمهم حيًا وميتًا، وأنهم ارتكبوا حماقتين مع السنوار؛ فأولها إطلاق سراحه عام 2011م في صفقة تبادل مع حماس بعد مكوثه ما يقرب من 22 عامًا في سجون الاحتلال، وثانيها نشرهم لصور حادثة استشهاده ومشاهدها التي برهنت للعالم أجمع أن السنوار ينتمي إلى عقيدة لا تتنازل عن المقاومة، وهنا تتضح ملامح هذه العقيدة التي تتصل بمبدأ أن لا مساومة في حرية الوطن إلا بتحقيق النصر أو الشهادة، ولعقيدة المقاومة بعمومها مذاهب يتعلق بعضها بالأديان وبعضها بالثقافات الإنسانية؛ فنجد هذه العقيدة عند الياباني الذي يؤمن بمبدأ عقيدة المقاومة حتى النصر أو الموت في سبيل الوطن مثل الذي جسّده اليابانيون من بطولات واستماتة في الحرب العالمية الثانية، ووجدناها عند الفيتنامي الذي قاوم الاحتلال الأمريكي بكل بسالة وحنكة متخذًا من عقيدة المقاومة مبدأ يتلخّص في تحرير الوطن، ولكن عقيدة المقاومة التي خاضها السنوار واستشهد بسببها تتجاوز أطر الثقافات الإنسانية وتراثها المرتبط بحب الأرض وصون سيادتها؛ فتتسع لتشمل قبل كل شيء إيمان المقاوم واتصاله بربه الذي وعده بالنصر والتمكين والشهادة لمن يقتل في سبيله.
تتجلى من هذه المشاهد التي تلتحم فيها معاني المقاومة مجموعةٌ من المظاهر؛ فنجد أولها في رهان العدو الصهيوني وحلفائه في أن عمليات اغتيال القادة في حركات المقاومة سيفصل المقاومة عن مركزيتها ويجعلها بلا رأس وفقَ وصف إحدى الصحف العربية التي عبّرت عن فرحتها باستشهاد السنوار، ولكن هذا الرهان لم يتحقق؛ فنأخذ مثلا المقاومة اللبنانية التي فقدت جلّ قادتها بما فيهم أمينها العام؛ فأثبتت استطاعتها أن تعيد ترميم صفوفها وبناء هيكلها القيادي في غضون مدة قصيرة لم تتعدَ الأسبوعين؛ لتُظهِرَ مسارات هجومية متطورة ضد العدو الصهيوني لم تكن في حسبان الكيان وقيادته، وآخرها محاولة اغتيال نتنياهو، وكذلك الحالة بالنسبة للمقاومة الفلسطينية في غزة؛ فلم تتغير معادلة مقاومتها للعدو الصهيوني الذي لا يزال يتكبّد خسائر فادحة في قادته وجنوده على أرض المعارك في غزة، وتتمثل هنا عقيدة المقاومة التي لا يمكن أن تفقد وقودها وتموت بموت قائد أو رمز، بل تستمر وتواصل مسيرها؛ فقبل السنوار، اغتال الكيان الصهيوني مؤسس حركة حماس أحمد ياسين، وبعده مجموعة من القيادات الكبيرة في الحركة؛ فلم تضعف الحركة وتتراجع بل تضخّمت قوتها وترسانتها العسكرية، وباتت رقما صعبا بالنسبة للكيان الصهيوني الذي عقد العزم هذه المرة أن يجعل من حربه حربًا شاملةً يعتمد فيها سياسة الدمار الشامل والإبادة الجماعية التي يرمي بواسطتها إلى دفع الفلسطينيين في غزة إلى المغادرة، وبدأت وتيرة هذا المشروع تتضاعف بعملية ما تعرف بـ«خطة الجنرالات» التي يأمل الكيان عن طريقها واهمًا إلى إنجاح مخططه في تهجير سكان غزة وضم القطاع إلى كيانه الغاصب، وهذا ما يُلحظ أيضا عبر مخططاته العسكرية في كلٍ من لبنان وسوريا، ولعلّ دولا أخرى في قائمته تأتي تباعًا اندفاعًا إلى تحقيق أوهامه ببناء ما يسميه بـ«إسرائيل الكبرى». مع هذه المقاومة وعقيدتها التي لا تهزم ولا تموت؛ سيتضح للعدو وأركان كيانه أن مخططاته التوسّعيّة التي تصاحبها أكبر مجزرة عرفها التاريخ ستكون مغامرة فاشلة يخوضها نتنياهو مزهوا بقوته العسكرية والدعم الأمريكي والغربي، وأن الثمن سيكون باهظا، ولن يتحقق هذا المشروع الظالم، وستظل المقاومة سارية المفعول، لأن العقيدة تجري في دماء أصحاب الأرض وجيناتهم.
نحن على أعتاب مرحلة جديدة لا يُستبعد فيها حدوث تغييرات جذرية لعلّها تستحضر استشرافات المفكّر المصري عبدالوهاب المسيري والشيخ أحمد ياسين في أن الكيان الصهيوني يقترب من أجله المحتوم ونهايته التي سيسبقها صعود الوعي العربي والإسلامي خصوصا والعالمي عموما، وسيسبقه طغيان غير محسوب للكيان الصهيوني، ويتبعه تخلّي داعميه عنه تباعا؛ فينقطع وريده الذي يغذّيه ويمده بأسباب البقاء، وهذا ما نراه واقعًا في حاضرنا؛ فالكيان في أقصى حالات جبروته وظلمه، وتحدى العالم أجمع بما فيها الأمم المتحدة وأمينها العام، واستفز أقرب داعميه في الدول الغربية والولايات المتحدة، وأظهرت بعض الدول الغربية بما فيهن الدول الأكثر دعما له مثل فرنسا امتعاضها ورغبتها في قطع الدعم العسكري عنه، وهذه كلها مؤشرات تدل على اقتراب نهاية هذا الكيان الفاسد الذي لم يعرف التاريخ أقسى منه وأكثر إجراما.
لا يمكن أن نفقد الأمل في تحقق مستقبل أكثر استقرارا في هذه المنطقة؛ فالكيان بتخبّطه الأعمى وضربه بكل قوانين العالم والإنسانية عرض الحائط يسير إلى نهايته، وأثبتت هذه الحرب أن ما كان يعرف بمشروع السلام وإقامة الدولتين لم يكن إلا وهما سابق الكيان الصهيوني نفسه إلى نسفه والتملّص من وعود تحققه التي أُوهمَ -الأحرى توهّم- العربُ بأنها الحل الناجع الوحيد الذي سيخرج المنطقة من أزمتها، وأن تحقق هذا المشروع سيتبعه تطبيعٌ مع الكيان يعكس السلام المنشود، ولكن نعود ونؤكد أن الكيان نفسه لا يؤمن بأهمية هذا المشروع، وأن مخططاته التوراتية تشدّ الخطى لتحقيق توسّع جغرافي على حساب مجموعة من دول المنطقة، وحينها نكتشف أننا تعايشنا مع وهم وأحلام شجّعنا الغربُ على تخيّلها، وكانت في حقيقتها تؤكد على مشروع كبح أيّ نمو عربي يتعلق بالجوانب العلمية والفكرية والصناعية والعسكرية، وفي المقابل دعم الكيان الصهيوني ليتشكّل ماردا جبارا علمًا وصناعةً وقوةً عسكريةً، ولكن نظل مع الأمل الذي يرتبط وجوده بوجود العقيدة التي يحملها رجالات المقاومة، ولا نملك إلا أن نؤكد على حبنا للعدالة وحفظ الأوطان ومقاومة أيّ ظلم يحل عليها، وسيشهد التاريخ مواقف الدول التي ساءها حدوث الظلم، وأقرّت بكل وسائلها المتاحة دعمها لحرية الشعوب ومقاومتهم للاحتلال، ولا يمكن أن نحصر هذه الدول في نطاق المجموعات العربية والإسلامية، بل تشمل دولا أخرى في العالم أظهرت عقيدتها الإنسانية المؤيدة للمقاومة. ستظل المقاومة عقيدة لا تتزعزع، ولا تفقد أملها في دحر الاحتلال واجتثاثه، وستبقى عصا السنوار أيقونة لهذه المقاومة واستمرارها.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني