المصادر الجديدة لإعادة تشكيل الذهنيات في الخليج

10 أغسطس 2022
10 أغسطس 2022

ما يطرحه العنوان أعلاه ينبغي أن يتصدر الاهتمامات السياسية الخليجية، وعاجلًا، لأنه يتعلق بمنطقة الفكر والأيديولوجيا التي تشكل الذهنيات الاجتماعية، فالدول الخليجية الست هي الآن في حتمية طرح التساؤل التالي: ما طبيعة المهددات التي تواجه مصادر الذهنيات الخليجية التاريخية التي صنعت الاستقرار لها طوال أكثر من خمسين سنة الماضية؟ سنجد هذه المهددات تكمن في مصادر جديدة لهذه الذهنيات، ويخطط لها أن تكون بديلة، أو هي الغالبة، وقد بدأت تنتشر في المجتمعات بصورة علنية، ولها من قوة التأثير ما يمكن أن تتغلب على المصادر التاريخية التي أسست الاستقرار الاجتماعي، وجعلت الأنظمة الفاعل الوحيد في صياغة الحقوق والواجبات، والمتفردة بالمشهد السياسي الداخلي.

نفكر في هذه القضية الآنية من زوايا النتائج التي حققتها الأنظمة طوال الحقبة الماضية، وتلكم المستشرفة إذا ما تركت المصادر الجديدة تؤسس الذهنيات بفعل الواقع رغم حصانته القانونية، ويمكن حصر هذه النتائج في الآتي:

- تحكم السلطة السياسية في مصادر تأسيس الذهنيات.

- الاستفراد بتحديد الحقوق السياسية للسلطة والمجتمع، وتحديد مصدر شرعيتها.

- الاستفراد في تحديد حقوق وواجبات مجتمعاتها.

- تحديد سقوف المبادرات الاجتماعية العامة وفاعليها، ومنع الخارج من اختراقاتها.

والتساؤل الاستراتيجي هنا يدور حول مدى تأثير مصادر الذهنيات الجديدة على مركزية السلطة السياسية التاريخية داخل مجتمعاتها وفق تلكم النتائج؟ هذا التساؤل يتجاوز قضية ديمومة المصادر التاريخية من عدمها، ليسلم بواقع التغيير الدراماتيكي المتسارع للمصادر التاريخية، ووجود منافسة قوية للمصادر الجديدة في ظل ترك الأنظمة الخليجية لها الحرية في الإحلال والاستبدال والتمكين مع التفاوت بين الدول الست بين أكثر تساهلا معها، وبين الأقل، وبين الحذر من ترقب انعكاساتها في ظل قوة العامل الثيولوجي/ الديني لمكونها الاجتماعي.

وتشترك الدول الست الآن في تركيز انشغالاتها السياسية على العاملين المالي والاقتصادي، ربما كان قبل سنتين ما يبرر ذلك، أما الآن، وبعد الاستقرار المالي وما أحدثته الطفرة المالية الجديدة من سيولة مالية ضخمة لها، والعودة المتفائلة لاقتصادياتها، فإن الإدارة السياسية ينبغي أن لا تغفل قضايا الذهنية / الفكر والأيديولوجيا، فتحدياتها لا تقل شأنا عن التحديات المالية والاقتصادية، بل ستكون متعاظمة، لأنها سياج التنمية وديمومتها، وصناعة هذا السياج، وقضايا التأهيل والتجديد الفكري هي من اختصاص الدول الخليجية فرادى وجماعة، أي لا يترك لغيرها مهما كانت الإكراهات، فنتائج نجاح اختراقات الخارج لها، تكون سريعة ومؤثرة جدا.

وهنا تساؤل استشرافي وهو، كيف ستكون ذهنية / أي طريقة تفكير الجيل الجديد في الخليج بعد خمس سنوات من الآن؟ وهي مدة زمنية متوسطة رغم أننا نشهد النتائج من الآن في كلا الجيلين المخضرم والجديد، مع التسليم بالماهيات المختلفة، لكننا نطرح الفترة الزمنية المتوسطة، كمحتوى له دلالته على مسار الخطط والرؤى للحكومات الخليجية التي تؤسس مرحلة وطنية حديثة في كل دولة من جهة، ولكي نفتح للفكر السياسي الخليجي قضية التشكيلات الذهنية الجديدة في منطقة الخليج العربي تزامنا مع قضية التحول في دور الدولة الخليجية من الريعية إلى الضرائب والرسوم، واستمرار مسار الخصخصة للشركات الحكومية والمرافق والخدمات العمومية مع ما يتقاطع معها من انتشار أفكار سياسية وأيديولوجية داخل مجتمعاتها من جهة ثانية.

كل الأيديولوجيات قد أصبحت الآن لها شرعية قانونية وسياسية في منطقة الخليج - مع التفاوت - ولن تكتفي بتسهيل ممارسة ديموغرافياتها في الخليج لشعائرها ومعتقداتها، بل ستذهب إلى أبعد من ذلك، وقد كنت مهتما بهذا الملف منذ سنة، أرصد مساراته وتطوراته، وأتابع إحداثياته، وفي كل متابعة عميقة، إقرر الكتابة عنه، لكنني أتراجع، حتى قرأت قبل أربعة أيام، تقريرًا مترجمًا لصحيفة الجارديان أعدته يلي هاردي عن حركة مسيحية تصفها الكاتبة بالمتشددة، وتقول عنها أنها تستهدف العمال الأجانب في دول الخليج بالتبشير، وأن هناك تنسيقا بين الكنيسة وسفارتها، والمتابع لتواجدها المؤسسي والعددي المتنامي، وقوتها السياسية والمالية والاقتصادية في حقبة الضرائب في الخليج، سينتابه القلق على الفكر / الذهنية في الخليج العربي، فإذا لم تكن تستهدف الخليجيين الآن، فهي تملك من القوة والتأثير ما سيجعل استهدافاتها تطالهم قريبا رغم وجود قوانين تمنع التبشير مثلا.

وينبغي هنا التوقف عند رهانات الحكومات على الشركات في توفير فرص العمل، وتحسين أوضاع العمال الخليجيين، وهذه بوابة ستفتح ربط الاقتصاد بالأيديولوجيا أو الأفكار الأيديولوجية - لا محالة - ومؤشراتها الآن واضحة، فمن يملك توفير فرص العمل والتحكم في مصادر الرزق، سيمكنه ذلك بسهولة من تنفيذ أجندته، وطبيعة المرحلة الخليجية الآن تمضي لصالح الشركات الخاصة المحلية والأجنبية في ظل الخصخصة ورفع يد الدولة الخليجية عن الإنفاق ورفع الدعم عن خدمات أساسية للمواطنين.

وما تقوم به الحركة المسيحية في الخليج - كما تقول الجارديان - يمكن القياس عليه صحيح هي تستهدف العمال الأجانب أصحاب الأجور المنخفضة الآسيويين، وتتدخل في حل مشاكلهم، -كما تقول الجارديان- وهنا منطقة استشراف تتجلى في أن طبيعة التحولات المالية والاقتصادية في منطقة الخليج العربية تنتج الأجور المنخفضة، وتقلص من حجم الإنفاق الحكومي، وتزيد من حدية قضية الباحثين عن عمل، وتراكماتها، وتصنع الكثير من المشاكل بين الخليجيين والمؤسسات التي تشغلهم من جهة، وبينهم وبين الجهات الحكومية التي تصيغ التشريعات لصالح الشركات الكبرى، كتحديد الأجور بسقف منخفض جدا.. الخ.

وتشكل تلكم بيئات نجاح للإجندات الأجنبية الداخلية والدخيلة والعابرة للحدود، والمستهدفة للمنطقة الخليجية، قياسًا لنجاح الحركة المتشددة في الخليج بين العمال الأجانب - والقول دائما للجارديان، والتي ذكرت كذلك أن الكنائس في الخليج قد أصبحت بمثابة اتحادات للعمال الآسيويين تقدم لهم الدعم المادي والروحي، وفق برنامج تطلق عليه «الولادة من جديد» يعني التخلي عن ماضيهم وفق تعبير الكاتبة، وكلنا نعلم عدد القوى العاملة الأجنبية في الدول الخليجية الست، فهم يتجاوزون 31 مليون عامل، ولنا تصور الخطورة المتعددة الأشكال للمستقبل في الخليج.

وبقليل من البحث، عثرت على إحصائية غير رسمية ومخيفة عن عدد الكنائس في دولة خليجية واحدة فقط، فكل منطقة فيها قد أقيمت مجموعة كبيرة من الكنائس، ومهما بالغت هذه الإحصائية في العدد، إلا أنها تعطينا مؤشرات حكمية، كما يوجد فيها عدد من المدارس تنتمي لنفس الفكر.. مما يعطي المشهد العام بعدًا سياسيًا أخطر من كونه حق الفرد أو الجاليات في الخليج في ممارسة شعائرها ومعتقداتها.

وهذا يقربنا لمعرفة ما يخطط للمستقبل، وهو تغيير الخارطة الدينية والقيمية في الخليج لصالح الجاليات، وهي لا تتوقف عن جالية واحدة، بل أصبحت كل الجاليات في الخليج لديها أجنداتها أيديولوجية وسياسية، فهناك أيضًا اليهودية والهندوسية والأفكار الخطيرة التي أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية رسميًا وعلانية دعمها ماليًا وسياسيًا في المجتمعات الإسلامية في المنطقة مثل فكر الإلحاد والمثلية، ونمو الفكر النيوليبيرالي.. الخ وتأثيرها على الشباب الخليجي قد بدا واضحا، وما تحت السطح أكبر مما يظهر فوقه، وهي كلها ستشكل الذهنية الاجتماعية الجديدة في المنطقة.

كل هذا يتم بسرعة زمنية فائقة، وانعكاساتها تكون في مستوى سرعتها، والمدهش أن كل ما أشرنا إليه يحدث في وقت ترفع الدولة الخليجية يدها كذلك عن حماية الأيديولوجيات والأفكار التي شكلت ذهنيات مجتمعاتها، واكتسبت منها شرعيتها السياسية، وتتركها الآن معومة، بل وتساهم في تفكيك ما أسسته الحقبة السياسية السابقة، وهنا ستفقد الدولة في الخليج السيطرة على الذهنيات وعلى منتجاتها الفكرية وطرق تفكيرها -والمؤشرات واضحة الآن- ولن تكون الأنظمة في الخليج العربي هي التي ستحدد حقوقها السياسية، وشكل العلاقة مع مجتمعاتها، والاستفراد بصناعة مستقبل بلدانها، وإنما سيكون للذهنيات الجديدة الدور الأساسي بدعم من الخارج، وستكون مآلات هذه الدول في سيناريوها مخيفة في ضوء الاختلال السكاني في بعض الدول. ففيها تصل نسبة الأجانب ما بين «70 %-80%».

هل بعد تمكينهم الأيديولوجي وتعميمه على النسبة الوطنية القليلة، أو حتى ظلت القلقة على أيديولوجيتها، ستظل الأنظمة في الخليج هي المسيطرة على قضايا الديمقراطية والحقوق السياسية لها ولمجتمعاتها من بينها الشراكة السياسية.. بنفس رؤيتها التاريخية؟ هذه صيرورة طبيعية إذا ما تركنا للمصادر الجديدة أن تشكل الذهنيات الجديدة في المنطقة الخليجية، وقد تصل التداعيات إلى الاستفتاء على هوية الدول في الخليج... وهنا ينبغي الإسراع السياسي في التدخل في المسير الذهني / الفكري حتى لا نواجه ذلك المصير المخيف.