المحتوى الذهني.. عالمٌ من التصورات
تنقسم التأثيرات المباشرة وغير المباشرة التي يساهم فيها الأفراد في بناء مجتمعاتهم – كما يصنفها البعض – إلى تصورات مكانية؛ مرتبطة بالمكان، وتصورات زمنية؛ مرتبطة بالزمن المنجز، وكلاهما نابعان من التجربة الشخصية عند الفرد، حيث لا يعقل أن يستحضر أحدنا أمكنة لا يمت لها بصلة ليضع لها أو يصنع منها تصورا معينا لما يحدث فيها، وكذلك لا يمكن أن لأحدنا أن ينظر لزمن طوته الأيام ليحكم على أحداثه وشخوصه من واقع تجربته هو يعيش في زمن مختلف، وظروف مختلفة، ويستخدم أدوات مختلفة، ليسقطها على واقع يعيشه حاضرا؛ مختلف بأدواته، ووسائله، وأجياله؛ وإلا عد هذا الإسقاط تجاوزا للواقع، وللمنطق في آن واحد، وقد يحكم عليه بالفشل الذريع، ولذلك ينظر إلى عالم التصورات؛ بقدر ما هو عالم غير متناه من الأفكار والرؤى؛ هو في الوقت نفسه قراءة معبرة عن مستوى المحتوى الذهني عند كل فرد على حده، ولذا عندما تتمايز الآراء والمواقف، ونوعية اتخاذا القرار بين شخص وآخر، فإن التقييم يذهب سريعا إلى حيث حقيقة هذا المحتوى الذي يجود به هذا الفرد دون غيره من الأفراد الذين يتقاسمون معه اللحظة، والبيئة، والمكان، والأسرة والقبيلة، وهذه كلها مناخات لن تشفع لآخرين من حوله أن تؤهلهم كما أهلت هذا الفرد دون غيره لأن تجعله من المتميزين، ولذلك يلعب المحتوى الذهني دورا رياديا للتنافس، وللتميز، وهو في جانبه البيولوجي أمرا طبيعيا جدا، حيث يظل الناس مختلفين في أشياء كثيرة فطرية ومكتسبة، وإن تشابهت مجموعة الظروف التي عاشوها، وقد يحدث أن تتقارب مجموعة المكتسبات المعرفية عندما تكون مصادر المعرفة متقاربة، ولكن تبقى هناك ملكات شخصية تتيح لفرد ما لا تتيحه لآخر، لأن يتسلم زمام المبادرة في التميز، وهذه من الفضائل الكريمة التي يوهبها الله عز وجل لعباده لحكمة يعلمها، ولحكمة ظاهرة وهي أن الحياة لا يمكن أن تكون على وتيرة واحدة من النمو، حيث لا بد للاختلاف أن يَتَسَيَّدْ الموقف، فما يصلح لمجموعة من الناس في مختلف شؤون حياتهم، لا يصلح لأخرى، وما يصلح لمكون جغرافي معين، لا يصلح لمكون آخر، وهذا مما يعزز التكامل بين المجموعات البشرية على امتداد الكرة الأرضية.
يحدث تماس كثير بين تجربة الجيلين، حيث تختلف تجربة الحياة، ويختلف العمر الزمني المنجز لكليهما، ومن هنا يبدأ اتساع الهوة بين الطرفين، فكل جيل ينتصر لمشروعه الذهني المتراكم عبر تجربة الحياة؛ كما ذكرنا؛ وعبر المساحة المتاحة للاشتغال في المكون الجغرافي، وقد يضاف هنا أمرا آخر، وهو مجموع الأدوات المتوفرة في كل عصر، والمساحة المتاحة للفرد لأن ينجز بكل ما عنده من طاقات يختزنها محتواه الذهني، وهذا مما يعمق من هذه الهوة، ويكسوها بكثير من الاختلاف، وربما التنازع، وقد يحدث أن يكون هناك التئام وتوافق في بعض نقاط التلاقي، فالحكم على الصورتين مرتبط بعوامل كثيرة، يأتي في مقدمتها مستوى الثقافة المتوارثة بين الأجيال، فهناك مشروع ثقافي غير منكور؛ يجسر مختلف التباينات، ويرى في المشروع الذهني رصيدا مهما لا يمكن زجه في ذاكرة الإهمال، مع أن هناك ثقافة مضادة تراكم من مستوى الخلافات، ولا تضع للمشروع الذهني أية قيمة تستحق أن يصغى إليها، ويقدر قيمتها، مهما كانت متواضعة، وهناك ظروف الحياة المستجدة، والتي هي الأخرى تتجاوز المحتوى الذهني، وترى فيه شيئا من الماضي، وأن الحاضر يفرض أجندات جديدة، وعلى الأجيال أن تنتصر لمحتواها الذهني؛ وإن كان محتوى الجيل الواحد مرهون بمدى طول أو قصر فترته الزمنية الحاضرة؛ والتي تصبح فيما بعد أيضا محتوى متراجع عما عليه الواقع، فلكل واقع توهجه وانبعاثاته، وانطلاقاته، لن تتشابه مع واقع آخر ولَّى، أو مع واقع آخر قادم.
لا يعذر الإنسان عن تفعيل مشروعه الذهني في كل مناخات الحياة المختلفة، سواء في حياته الخاصة أو العامة، ومن خلال ذلك يمكن النظر إلى هذا الإنسان بشيء من التقدير، وإلا لما شرع التشاور، وطرح الآراء، وتبيان ما خفي عن الآخرين في شأن ما من شؤون الحياة، وللإنسان أن يوضح تصوراته المختلفة، سواء انطلاقا من تجربته الخاصة "مستوى العمر/ الزمن" أو انطلاقا من الظروف التي يعيش فيها في محتوى جغرافي معين "المكان/ الصانع للأحداث" أو من خلال مجموعة القيم المتوارثة؛ والتي غالبا ما تستحوذ على مساحة ليست هينة من المحتوى الذهني، فالإنسان ليس صخرة صماء، ليراكم ما يعيشه، وما يسمعه، وما يستوعبه، ليكون كل ذلك حبيس أدراج نفسه، متضخم في ذاته فقط، والنفس تواقة لأن تبدي ما عندها من انفعالات وتصورات لأمر ما، ولعلنا نرى هذا التوهج الذهني في إقدام الأطفال على إبداء آرائهم؛ وهم في هذا العمر الصغير؛ لتكون لهم بذلك مساحة ما في حضرة الكبار، وهذا ما ينبئ عنه التوهج الذهني الصارخ مقارنة مع أعمارهم الصغيرة، وصغر تجربتهم الحياتية المتواضعة لا تعني أنهم لا يملكون رصيدا ذهنيا مقدرا، ولذلك يكون لهم رأي، وعندهم أسئلة متزاحمة، ومتدافعة، تنتظر اللحظة التي يسمح لها بالخروج من سجن النفس، إلى واقع من حولهم، ولا شك كم ستكون سعادتهم بالغة الانتشاء، وهم يقولون ما يفكرون به، ليحفزهم لمزيد من التعلم، والتدرب، والإحاطة بما يدور حولهم، وهم بذلك ينضمون إلى سلسلة البناءات الذهنية التي لا تتوقف عند حد معين، ما دام هذا الإنسان تشع فيه الروح وتتسامى بوهجها وقدرتها على العطاء، ولذلك يقاس مستوى التوهج الذهني عند الإنسان على مستوى ما ينجزه في فترة زمنية معينة، ومعنى هذا أن كل فترة زمنية من عمر الإنسان تحمل خصوصيتها وقدرتها على المساهمة في المجالات المتاحة أمامها في شؤون الحياة المختلفة، وتتوافق مع لحظتها الآنية، وظروف البيئة التي تعيشها، ولذلك فالذين يقيمون الناس على مختلف أنشطتهم، وتقلبات أمزجتهم، ومجموعة التحولات النفسية والمادية التي يعيشونها؛ هم بذلك يسقطونهم في مأزق الظلم، ولا يتيحون لهم نفس الحرية الشخصية فيما يفعلون، وما يقولون، وما يدور في ذهنياتهم الحاضرة، وهذا أمر في غاية الأهمية، لأنهم بذلك يسقطونهم من تاريخ مستحق لهم، ولهم الحق في أن يساهموا في صناعة هذا المحتوى، أو ذلك، تحت أي فهم لمفهوم صناعة التاريخ، فصناعة التاريخ ليست مرتبطة بالأحداث الجسام التي يقوم بها أناس معينون، تيسرت لهم سبل هذه الصناعة، وإنما كل فرد في المجتمع هو صانع للتاريخ العام، وتاريخ من حوله، بصورة أو بأخرى، وأقربها مساهمة هي المساهمة في بناء تاريخ أسرته بدرجاتها المختلفة؛ حيث بداية التأسيس، لأنه يحمل رقما مدنيا، لا يمكن أن يغض الطرف عنه، وإن كانت مساهمته تغلفها ضبابية ما، فإن ذلك لن يكون مبررا لأن يلغى دوره في المجتمع الذي يعيش فيه، فهو جزء لا يتجزأ من مكونه الاجتماعي الكبير.
كثيرا ما نكون مرتهنين بما نفكر به، وبما يدور في أذهاننا من تصورات، وتخيلات، بعضها يوافق الواقع الذي نعيشه، حيث التجربة الشخصية المتراكمة، وبعضها الآخر يغرد خارج السرب؛ حيث الحرية الذاهبة إلى الانعتاق من استحكامات المجتمع في بعض المواقف، وفي كلا الحالتين نظل حيث ما نفكر فيه أكثر، وقد نغلق آذاننا وقلوبنا عن كل النداءات التي نسمعها من القريب ومن البعيد، أكانوا ناصحين، أو شامتين، فالفهم ينحاز؛ ولو بمستوى نسبي؛ إلى حيث تحل التجربة الشخصية لتلغي كل التأثيرات الجانبية، وهذا بقدر ما هو حق فردي؛ حيث مساحة الحرية المتاحة للفرد، إلا أن المعاب في هذه الصورة هو الإغراق المخل في الابتعاد عن تفاعلات المجتمع وتوهجه، وانفعالاته، فالمجتمع يقوم بأفراده، وبنصاعة أفكارهم، وحيوية أنشطتهم، وبمساهمتهم المباشرة في رصيده الذي يعزز من مكانته، ووجوده.