المجالس البلدية في حقبة اللامركزية.. فكيف نختار أعضاءها؟
قريبا ستفتح صناديق الانتخابات لاختيار أعضاء الفترة الثالثة للمجالس البلدية في المحافظات، وما يميز هذه الفترة أنها تشكل التجربة الأولى لحقبة نظام اللامركزية، ولقانون المجالس البلدية الجديد، ولا يمكن فصل المجالس البلدية عن اللامركزية، فهي الرافد لها، وأداتها الأساسية في بلورة غايتها السياسية الكبرى المتمثلة في جعل المحافظات بولاياتها مسؤولة عن تنميتها الجغرافية، ومهما كانت الملاحظات التي أبرزها مساواة المحافظات في عدد ممثليها في المجالس البلدية، حيث ينص القانون الجديد على انتخاب عضوين من كل ولاية بصرف النظر عن مساحة الولايات أو عدد سكانها، فالعبرة ستكون الآن بالنتائج الملموسة، وهذه الأخيرة ينبغي تلمسها من خلال أداء أعضاء المجالس البلدية، وعلاقتهم مع المحافظين وشركاء التنمية الإقليميين والمركزيين، حيث سيكونون على طاولة واحدة طوال أربع سنوات، وكل من يقدم استدلالاته المقنعة سيكون في موقع المؤثر في صناعة القرار اللامركزي.
وهنا ينبغي التوقف لو سريعا عند الغاية السياسية الكبرى من وراء تبني نظام المحافظات في البلاد، فهي تتجلى في تقييد المركزية في تنمية وإدارة شؤون المحافظات، وإيلاء الفاعلين المحليين في كل محافظة، وكذلك الفاعلين الجهويين في كل ولاية – المسمى مشتق من الجهة، وتمثلها هنا كل ولاية - صلاحية تنمية التراب الجغرافي المحدد لهم، والتنمية بالمفهوم الواسع، بمعنى كل ما يهم المحافظات والولايات من احتياجات مادية، وما تواجهها من تحديات فكرية وقيمية، والأهم هنا، جعل مسؤولية المحافظات وولاياتها أفقية وليست رأسية، على عكس نظام المركزية.
وهذا التطور له توقيته الزمني، ودواعيه السياسية المختلفة، وهي قراءة سياسية لتحديات عصر الضرائب، والمتغيرات السياسية الكبيرة التي ستحدث مستقبلا، فأساليب الحكم في العالم قد أصبحت متغيرة ومتجددة، ولم تعد كما كانت في حقبة الدولة الرعائية، تدار رأسيا على المستوى السياسي أو تنمويا واقتصاديا مركزيا، فمستقبل استقرار كل دولة في حقبة الضرائب وتقليص الإنفاق الاجتماعي وقضايا مثل الباحثين عن العمل والانفتاح الفكري والاقتصادي يستدعي الانفتاح على تطوير نظام الإدارة المحلية على مستوى المحافظات، وبصورة أدق كذلك على مستوى الولايات لتكون ضمن الغاية السياسة للامركزية، حيث تشكل كل ولاية أهمية جيوسياسية في حد ذاتها، ولها تحدياتها المختلفة.
لذا، فإن الإدارة المحلية لكل ولاية ينبغي أن يناط إليها مسؤولية المشاركة المنتجة للقرارات التنموية ومواجهة تحدياتها المختلفة، والاعتداد بالولايات/ الجهويات بدأ لنا واضحا من خلال تمثليها في مواقع قيادية مركزية، ومن خلال تشكيل لجنة اجتماعية في كل ولاية، ومنحها صلاحيات ترابية حصرية، كالمحافظة على منظومة القيم والأخلاق والهوية في كل ولاية، والعمل على تعزيز دخل الأسر، وتقديم الدراسات المختلفة للارتقاء بشأن كل ولاية من كل النواحي بالتنسيق والشراكة مع المجالس البلدية، والقضية الآن تكمن في تطبيق هذه الهندسة السياسية لدواعي تحقيق غاياتها الكبرى بما فيها الاجتماعية عبر جعل المحافظات والولايات شريكا فاعلا في تنميتها ومواجهة تحدياتها بالشراكة مع كوادر وأطر المركزية واللامركزية في المحافظات والولايات، لذلك فإن أية إخفاقات ستتحملها المسئولية الأفقية وليس الرأسية أو المركزية في حالة تطبيق اللامركزية.
وهنا منطقة وعي متعددة الاتجاهات في ظل قرب استحقاق انتخابات المجالس البلدية المقبلة، وذلك حتى تحرص القواعد الانتخابية على اختيار الأفضل في فترة زمنية حساسة جدا، أهم شروط النجاح فيها، ضخ الكفاءات وأصحاب الخبرات الذين لديهم حس رفيع، ووعي أصيل بتحقيق الإنجاز للصالح العام، ولديهم كذلك وعي بالتحولات المالية والاقتصادية في البلاد، وانعكاساتها على المجتمع، ودورهم من خلال صلاحياتهم العمل على تخفيف من حدتها السياسية والاجتماعية والتنموية، لكن، كيف؟
الكيفية هنا سنرسمها من خلال الصلاحيات الممنوحة لأعضاء المجالس البلدية وفق قانون المجالس البلدية الصادر بالمرسوم رقم 126 / 2020 وتعديلاته، مع محاولتنا ربطها بنظام المحافظات الصادر بمرسوم سلطاني رقم 36 / 2022، وذلك حتى ينسجم أداء أعضاء المجالس البلدية مع نظام اللامركزية، ومن ثم تحقيق النتائج المتوخاة منه، وسأركز هنا على مسألتين هامتين هما أولا: الموارد المالية للمحافظات، ودور المجالس البلدية في تعزيزها، ومدى انعكاساتها على صناعة فرص عمل للباحثين، ثانيا: دور المجالس البلدية في الرقابة على المشروعات التنموية والخدمية، وذلك كون هذه القضية بثنائيتها من القضايا الأساسية التي تتصدر سلم الأولويات الوطنية، ومن الأهمية أن تولي من قبل المجالس البلدية في فترتها الثالثة المقبلة الأهمية المستحقة.
أولا: مصادر تمويل موازنة كل محافظة.
حدد قانون نظام المحافظات « المادة 21» خمسة مصادر للتمويل وهي الآتي:
- الاعتمادات التي تخصص لها في الميزانية السنوية للدولة.
- رسوم الخدمات.
- الهبات والإعانات والمنح.
- نسبة من الرسوم البلدية.
- عوائد استثمار أموالها.
وبالنظر لواقع هذه المصادر، فهي غير كافية لتلبية طموحات التنمية المحلية والجهوية، وبالرجوع إلى قانون المحافظات فقد منح كل محافظ صلاحية صناعة مصادر دخل جديدة في نطاق جغرافية كل محافظة، بنص المادة «6» التي تمنح المحافظ الآتي «تنمية واستثمار الموارد الخاصة بالمحافظة، والترويج لها من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وخلق فرص عمل للمواطنين» ولم يكتفِ المشرع بجعل هذه الصلاحية حصرية للمحافظين، وإنما أشرك
المجالس البلدية فيها، وهذا نجده واضحا في نظام المجالس البلدية «المادة 21» حيث تنص «اقتراح وسائل استثمار موارد المحافظة، من أجل تحقيق التنمية المستدامة وخلق فرص عمل للمواطنين».
وهنا بإمكان المجالس البلدية تقديم دراسات حول كيفية استثمار مقومات كل محافظة، بما فيها الأراضي التي تمتلكها، فمثلا تمتلك محافظة ظفار أكثر من «400» قطعة صالحة للاستثمار، ويمكن أن تدر عليها عوائد مالية مستدامة، وهنا دور المجلس البلدي لتقديم دراسة استثمارية تبين غرض الاستثمار ونوعيته، وتحدد فرص العمل التي يمكن أن تستوعب الباحثين عن عمل، وربما على الحكومة التفكير في منح أراضي استثمارية للمحافظات ليس شرطا أن يكون داخل المحافظات نفسها، حتى تضمن لنفسها الدخل المستدام، وتقلل اعتمادها على المالية العامة للدولة، وفي هذه الحالة سيكون بمقدور كل محافظة أن تخفض من حجم الرسوم، وكذلك اقتراح تخفيض حجم الضرائب على اعتبار وجود بدائل مستدامة.
ثانيا: الحق الرقابي.
منح القانون للمجالس البلدية حق الرقابة على التنفيذ، كمتابعة تنفيذ المشروعات الخدمية والتنموية في المحافظة، وإبداء الملاحظات بشأنها، ومتابعة تنفيذ العقود الخدمية والتنموية التي ترتب حقوقا مالية للمحافظة أو التزامات عليها، وهذا الحق من أهم الأدوات التي تمتلكها المجالس البلدية في حقبة اللامركزية بغاياتها السياسية والاجتماعية سالفة الذكر، وإن كانت دون خاصية الإلزام في نتائجها، ففعالية الأداء، ومنتوجاته في الرقابة، وديناميكية الحوار مع السلطة اللامركزية/ المحافظ/ التي تمثل السلطة السياسية في كل محافظة سيجعل من نتائج أو انكشافات الرقابة حجة يعتد بها، وتحرك ملف المساءلة.
كما أن هذا الحق مشروع تطور مقبل يحتم الآن إنضاجه بوعي الممارسة الوطنية الملتزمة والواعية، ويمكن للمجالس البلدية أن تحدث فيه اختراقات عميقة وكبيرة، فهناك مشروعات عديدة ومتنوعة خدمية وتنموية سياحية معرقلة من عقود، فمثلا، المشروعات السياحية التي منحت لأصحابها أراضي بالمجان، ولم تر النور حتى الآن، ففتحها وتقديم بدائل لها، وجعلها مصادر دخل لمالية كل محافظة أولوية المرحلة، وكذلك فتح ملفات المشروعات الاقتصادية كالمنطقة الحرة بالمزيونة التي ينبغي تطويرها، فتوقيته مناسب لكي تصبح بوابة الخليج نحو اليمن والقرن الأفريقي. وهذه مجرد أمثلة نستدل بها بحكم معرفتنا الجغرافية بها، ويمكن أن نجد استدلالات كثيرة في المحافظات الأخرى، ويمنح القانون كذلك للمجالس البلدية الرقابة على المشروعات التنموية والخدمية الجديدة، مما ستكون بمثابة ضغوطات تساعد على سرعة إنجازها، وضمانة جودتها وفق ما خطط لها.
ثالثا: ماذا نريد قوله من خلال ما سبق؟
وهذا القول موجه لكل مجتمع محلي في البلاد، بهدف انتخاب من يتمتع بشروط الفترة الثالثة للمجالس البلدية، فأعضاء هذه الفترة ينبغي أن يكونوا مؤهلين لاستحقاقاتها وفق صلاحياتها، صحيح هي غير ملزمة، لكن خطوة الإلزام قد تنتجها الممارسة ونتائجها الواعية، وضغوطاتها الإيجابية، وهذا يمكن تحقيقه من قبل الأعضاء المنتخبين في المجالس البلدية التي يترأسها المحافظون، فكلما تكون حواراتهم ونقاشاتهم مدعومة بالحجج مع السلطة المركزية واللامركزية داخل المجالس البلدية، يكون ذلك مدخلا لقبولها، ومن ثم إمكانية تطبيقها،خاصة إذا ما كانت الحجج تصب في جوهر الغاية السياسية الكبرى من تبني نظام اللامركزية.
فكيف نختار أعضاء يمنحهم القانون الجديد كذلك، دراسة مشروعات خطط التنمية في نطاق المحافظة، واقتراح المشروعات الإنمائية فيها، وكذلك إبداء المقترحات حول أداء فروع الوحدات الحكومية الخدمية في المحافظة، وإبداء الرأي بشأن المواقع المقترحة للمشروعات التنموية، والخدمية، والاقتصادية، والمخططات العمرانية والمشاركة في تحديد احتياجات المحافظة من المرافق العامة، والخدمات الحكومية، واقتراح المشروعات المتعلقة بها، وإبداء التوصيات المتعلقة بالصحة العامة، فهذه المرحلة زمنية تطبيق نظام اللامركزية وحتمية نجاحه الفوري، والمجالس البلدية كما أشرنا إليه سابقا رافدها وأداة فاعلة من أدوات نجاحها رغم صلاحياتها غير الملزمة الآن، ولن تكون كذلك إلا بأعضاء في مستوى هذه المرحلة، ينضجون استحقاقاتها السياسية الجديدة وفي آجالها الزمنية المستحقة، وهذه ستكون مقدمة دافعة للتطور السريع للمجالس البلدية.