المثقف السوداني وقضية "دريفوس"!
محمد جميل أحمد
إذا كان اسم "المثقف" قد تم اشتقاقه في فرنسا على خلفية هذه القضية، التي ارتبطت بالمقال الشهير للأديب الفرنسي المعروف أواخر القرن التاسع عشر: " إميل زولا" تحت عنوان: " إني اعترض" دفاعاً عن الضابط الفرنسي اليهودي " دريفوس" الذي اتهم بالخيانة الوطنية على خلفية ديانته اليهودية، حين كانت أجواء معاداة السامية في فرنسا على أشدها؛ فإن هذه القضية التي تتصل بهوية فرز الحق عن أي اعتبارات أخرى في وقائع اتهام المواطنين ستظل هوية المثقف الحقيقية.
ذلك أن مهمة المثقف الحقيقية ليست في أن يكون بوقا يردد ما تردده السلطة، أو تابعا يردد ما يردده العوام. وبعض "المثقفاتية" (يطلق هذا اللقب في السودان على أدعياء الثقافة) يزايدون على العوام طمعا في ألقاب شعبوية، لا تسمن ولا تغني من جوع. وإنما مهمة المثقف الحقيقي هي القدرة على فحص الأفكار، وكشف المستور، وقراءة ما وراء الأحداث، والتحديق عميقاً في قراءة الواقع والتحلي بالشجاعة الكافية للثبات على مبدأ استهلاك الحقيقة.
وبالرغم من حلكة ظلام التهم وتلفيقها ضد الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، مع إصرار الجيش الفرنسي على اتهامه وسجنه، لم يفقد المثقف الفرنسي الكبير إميل زولا الأمل؛ إذ كان على قناعة ببراءة دريفوس، وبقي مستمسكا بمواجهة السلطة السياسية والاجتماعية، مما أدى في النهاية إلى انتصار المثقف على السلطة.
عندما اعترف الجميع، بعد ذلك بسنوات، ببراءة الضابط دريفوس من تهمة الخيانة، وتم إعادة الاعتبار إليه. في ظل واقع مضلل؛ كالواقع الذي عبِّرت عنه قضية دريفوس (التي أحدثت انقساماً كبيراً في المجتمع الفرنسي انحاز فيه المثقفون للضابط دريفوس) قد تقع تهمة على جماعة ما، لكن سياق الضغط والهياج الجماعي الذي يصاحب خلفيات الاتهام الاثني لتلك الجماعة، لا يكون مرتبطاً بسمات فردية، وإنما بسحنات أثنية الجماعة مثلاً، ثم سرعان ما يتحول ذلك الشحن إلى موجات شعبوية عاتية ومضللة بحيث يصبح الاتهام مزاجا عاما وتيارا جارفا ليس بوسع الفرد العادي الوقوف أمامه.
هكذا؛ ثمة علاقة مشابهة لذلك المزاج الشعبوي اليوم في السودان بعد أن جلبت سيولة الحرية التي وفرتها الثورة السودانية؛ حرية ثورة مضادة، اشتغل فيها عناصر النظام البائد بكل ما يجعل من قدرتهم فاعلة على شل حركة الثورة باتجاه الانتقال الديمقراطي الآمن.
ولعل أبرز محطات بؤر الثورة المضادة اليوم في السودان تكمن في الإقليم الشرقي؛ الذي هو بمثابة " كعب آخيل" الثورة السودانية؛ حيث تنشط تلك الثورة المضادة على قدم وساق من أجل اشعال فتنة حرب أهلية بين مكونات شرق السودان، عبر اختيار كبش فداء تمثل في أحد المكونات الإثنية السودانية التي وقع عليها اثم اتهامات جماعية من قبل مصادر للثورة المضادة أثرت قناعتها في الناس بأن ذلك المكون ليس سودانياً في جملته! عبر سياق محموم من التوتر والشحن الشعبوي لمجتمع عاش ثلاثين عاما من تجريف وطنيَّته التي تم استبدالها بقبائلية مميتة تحت ضربات نظام الإسلام السياسي! لقد كانت نهاية السنوات الثلاثين من حكم انقلاب نظام الإسلام السياسي العسكري؛ سنوات أوصلت المجتمع السوداني إلى مرحلة بلغ فيها التسطيح والقبائلية ذروةً غير مسبوقة، ففي مثل هذه البيئة تصبح الاتهامات على درجة عالية من السيولة؛ لأن التضليل الذي تمارسه وسائل التواصل الاجتماعي لتأجيج حملة اتهام ذلك المكون (فقط لشبهة امتداده الطبيعي مع حدود دولة أخرى) تسَّهل لكثيرين قناعاتٍ مستعدة للتصديق وقابلية الشحن بخطاب كراهية غير مبرر. وبطبيعة الحال، حين ينتشر خطاب كراهية تضخه آليات ثورة مضادة تشتغل على وقائع الفتنة بوتائر متصاعدة؛ يغيب العقل الجمعي في نسغ من الاستيهام المضلل لتلك الجماعات الشعبوية، مما يؤدي إلى ممارسات قتل على الهوية، وطهرانية وطنية زائفة لا تعرف موجاتها المتشنجة أي معنى للحس الوطني.
في مثل هذه الظروف تحديداً، يجب أن يرتفع صوت المثقف كصوت مضاد لأصوات الغوغاء الشعبوية الهائجة؛ أي كصوت لا يمكن أن يرفعه في وجه تلك الجماعات المتوترة إلا مثقف يكترث للحقيقة، ويملك استعداداً لأن يدفع الثمن.
لقد كشفت أزمة صناعة التخوين المزيف لذلك المكون من شرق السودان عن صمت مريب لمثقفي شرق السودان وكثيرين من مثقفي السودان، بحيث بدا واضحا أن تجريف ثلاثين عاما من التدجين فعل فعله في ضمير ذلك المثقف فأعجزه عن النطق بالحقيقة.