المبادرة الصينية للسلام العالمي
في الكلمة الرئيسية التي ألقاها شين قانغ وزير خارجية جمهورية الصين الشعبية يوم 22 فبراير خلال افتتاح «منتدى لانتينج حول مبادرة الأمن العالمي» تحدث الوزير الصيني عن مبادرة أطلقتها بلاده للأمن في العالم. وقال الوزير إن هذه المبادرة مبنية على مبادئ للأمن والسلم كان الرئيس الصيني شي جين بينج قد أطلقها في عام 2014. وقد تم تقديم المبادرة المذكورة في المنتدى من خلال مذكرة بعنوان «ورقة مفاهيم مبادرة الأمن العالمي». ونستعرض في هذا المقال جانبا مما جاء في الورقة التي تم توزيعها ونشرها، وكذلك نتطرق إلى بعض من كلمة وزير الخارجية الصيني في منتدى لانتينج، مع التعليق على بعض الجوانب التي تخص العالم العربي فيهما.
اشتملت ورقة مفاهيم المبادرة الصينية على أربعة أقسام. تضمن القسم الأول منها خلفية عن أهمية الأمن للبشرية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، مع إشارات إلى المبادرة التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينج في وقت سابق. وقد أوضحت الورقة أن المبادرة المذكورة تهدف إلى اجتثاث جذور النزاعات في العالم، وتحسين حوكمة الأمن العالمي، وتشجيع الجهود العالمية المشتركة الرامية إلى بناء المزيد من عناصر الاستقرار في عالم غير مستقر، تهدده الكثير من الأزمات والمخاطر. وأشارت الورقة كذلك إلى أن المبادرة تهدف إلى نشر السلام وتشجيع التنمية في كل ربوع العالم. أما القسم الثاني من الورقة فقد تضمن المبادئ الأساسية للمبادرة، وذلك في ست نقاط. ومن أهم تلك المبادئ الالتزام برؤية مشتركة وشاملة ومستدامة حول الأمن العالمي، واحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها وحدودها الإقليمية، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. كما تم التأكيد على الالتزام الصارم بمواثيق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وحل الخلافات بالطرق السلمية. أما القسم الثالث من الورقة فيتحدث عن أولويات التعاون بين الدول، وقد سردت الورقة عشرين مجالا للتعاون، من أهمها المشاركة الفاعلة من جميع الدول لوضع أجندة (برنامج عمل) للسلام يتم إقراره من قِبل مجلس الأمن الدولي ليكون ملزما لجميع الدول. كما أكدت الورقة على أن استخدام الأسلحة النووية في الحروب لن يؤدي إلى انتصار لأي طرف، ولذلك يجب عدم استخدامها تحت أي ظرف ومن أي طرف كان. وفيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط حددت الورقة في أولوياتها خمسة مبادئ للتعاون، وهي تبني مبدأ الاحترام المتبادل، والالتزام بالمساواة والعدالة، وتحقيق مبدأ عدم انتشار الأسلحة الذرية، وتطبيق مبدأ الأمن الجماعي، وتسريع جهود التعاون والتنمية في المنطقة. كما أكدت المبادرة على أهمية تقوية دور جامعة الدول العربية وغيرها من المنظمات الإقليمية في بناء الاستقرار والتنمية في المنطقة. ومن بين مجالات التعاون العشرين التي تضمنتها المبادرة كذلك، التعاون الدولي في مجال درء المخاطر البيولوجية، وحوكمة أمن الذكاء الصناعي، إلى غير ذلك من مجالات تقليدية ومستجدة أو غير تقليدية.
الملاحظ أن «المبادرة» الصينية ليست صيغة جاهزة قدمتها الصين إلى العالم للقبول أو الرفض، وإنما تم تقديمها في المنتدى المذكور في صورة ورقة عمل بعنوان «ورقة مفاهيم مبادرة الأمن العالمي»، الأمر الذي يعني أن الصيغة النهائية للمبادرة ستكون حصيلة نقاش بين كل الدول والمنظمات ذات العلاقة. الأمر الآخر المهم في الورقة أنها أكدت أهمية أن يكون للمنظمات الدولية والإقليمية القائمة دور في نشر السلام والتنمية. كما أنه من الواضح أن المبادرة لم تسعَ إلى تقويض المنظمات القائمة أو إنشاء مناطق نفوذ لدول على حساب دول وشعوب أخرى، مثل ما كانت عليه مثلا ما يسمى «مبادرة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير». ولا تهدف المبادرة كذلك إلى مسخ الثقافات الأصلية واستبدالها بثقافة هجينة لا تنسجم مع الأخلاق والقيم العليا للشعوب. كذلك تعارض المبادرة إقامة الأحلاف العسكرية أو توسيعها كما يحدث منذ سنوات في توسيع حلف شمال الأطلسي وفق سياسة هيمنة القطب الواحد. وبدلا عن ذلك أكدت ورقة مفاهيم المبادرة الصينية أهمية المشاركة بين الدول وتقوية وتفعيل قوات حفظ السلام الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة.
أما كلمة وزير الخارجية الصيني في افتتاح المنتدى المذكور أعلاه فقد تضمنت شرحا للمبادرة وأهدافها. وقال إن المبادرة التي أطلقتها بلاده تهدف إلى بناء مجتمع عالمي آمن طويل الأمد، وأن ذلك يجب أن يكون من خلال رفض كل أشكال الهيمنة والتنمر. وقال أيضا إن هذه المبادرة لها جذورها في الثقافة الصينية الداعية إلى السلم والتعاون، وهي كذلك نابعة من السياسة الخارجية المستقلة للصين التي ترفض الهيمنة والإملاءات. وأضاف قائلا إن الصين عبر تاريخها الطويل لم تبدأ أي حرب ولم تسعَ إلى الهيمنة على الدول الأخرى. ودعا الوزير الصيني إلى انتهاج طريق آمن يحل فيه الحوار محل المواجهة والمشاركة محل التحالف. وقال إن النجاح الذي يتحقق يجب أن يكون نجاحا للجميع، وليس لعبة صفرية، فيها خاسرون ورابحون وغالبون ومغلوبون. وأشار الوزير في كلمته إلى أن أكثر من ثمانين دولة ومنظمة دولية وإقليمية أعربت عن تقديرها ومساندتها للمبادرة. كما أكد على دور الأمم المتحدة في ترسيخ الأمن والسلم في العالم، وأشار إلى أهمية التعاون بين الدول بما يحقق ذلك الهدف. وعند حديثه عن منطقة الشرق الأوسط، دعا إلى استئناف الاتفاق النووي مع إيران، كما دعا إلى تشجيع ودعم الحوار في المنطقة.
ومما يؤخذ على المبادرة، وخاصة على كلمة الوزير الصيني أنهما لم يتطرقا كما يجب إلى القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، بل إن الوزير ركز فقط على البرنامج النووي النووي الإيراني، وذلك ربما لما للصين من مصالح اقتصادية واسعة مع كل الأطراف في منطقة الخليج العربية. وقال إن بلاده تدعم دخول المملكة العربية السعودية وإيران في حوار حول الأمن في المنطقة. ومع أن للبرنامج النووي الإيراني وإقامة علاقات حسنة بين السعودية وإيران أهمية كبيرة، إلا أن أس المشاكل في المنطقة والمحور الذي تدور حوله علاقات دولها هو قضية فلسطين، لما لهذه القضية من أبعاد إنسانية ودينية وسياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية. ولا سلام ولا استقرار في الشرق الأوسط، بل وفي العالم كله، بدون حل هذه المسألة حلا عادلا يستعيد به الشعب الفلسطيني حقوقه. وأي اتفاقات سياسية أو اقتصادية أو أمنية لا يكون حل قضية فلسطين أهم أهدافها ستبقى محاولات واجتهادات لا تحقق السلام والأمن في المنطقة. وحيث إن المبادرة الصينية لا زالت «ورقة مفاهيم»، أي أنها خاضعة للنقاش والتعديل، فإن على الدول العربية الدخول في نقاش جدي حولها مع الصين للتأكد على بعض الجوانب الأساسية التي تهم الدول العربية، كان ذلك بصورة فردية أو في إطار الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي. ونرى أن المشاركة العربية الفاعلة في مناقشة ورقة المبادرة الصينية وصياغتها لتأخذ المصالح العربية طريقا مهما يمكن الدول العربية من أن تكون جزءا فاعلا في نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب آخذا في التشكل حاليا.