اللجان الاجتماعية في الولايات.. ورهاناتها الوطنية في حقبة الانفتاح
كلما تنشغل المركزية بالقضايا الوطنية الكلية، والجامعة لكل مكونات الدولة، وتمنح المحافظات والولايات صلاحية تخطيط مستقبلها، وتسيير وتدبير شؤونها الداخلية، ومواجهة تحدياتها في ظل الاستراتيجيات الوطنية، كلما كان ذلك ضمانة لديمومة الاستقرار في الحقبة الزمنية الجديدة التي أهم ملامحها الضرائب والرسوم وتقليص حجم الإنفاق الاجتماعي، والانفتاح الاقتصادي والفكري، وتوجهات البلاد السياسية المعاصرة تسير في تسير في هذا الاتجاه، وذلك من خلال تبني نظام اللامركزية، وجوهره ينطلق من مسألة جوهرية وهي تنمية المحافظات، وجعل تبعية هذه المسؤولية أفقية وليست رأسية كما كانت خلال العقود الماضية.
وتظل القضية المطروحة الآن في مسألتين جوهريتين هما: كيفية التطبيق؟ وانعكاس آثارها سريعا على المجتمعات المحلية؟ وهذه القضية لا ينبغي أن تترك للسلطة التنفيذية المحلية والإقليمية، وإنما ينبغي أن يكون هناك وعي بأي شكل معنوي عام، يؤطرها ويوجهها للتطبيق وحصد النتائج في تواقيتها المستحقة، ونقترح أن يكون هذا الوعي المؤسسي ضمن سياق مجلس شؤون المحافظات الذي يضم كل المحافظين، فهو بمثابة المظلة التي تجمع المركزية واللامركزية، ومنها سيخرج الوعي شاملا ومشتركا في إطار الاستراتيجيات الوطنية، وحبذا لو تقاطع معه إقامة مراكز للتخطيط الإقليمي في كل محافظة «مقترح سابق» عندها ستبرز المسؤولية الأفقية بصورة مثالية.
مع التشديد مجددا على أن هذه الهندسة السياسية قد خرجت من وعي سياسي رفيع بطبيعة مستقبل مرحلتنا الوطنية، وإكراهاتها الداخلية والخارجية، لذلك يشكل تطبيقها الصحيح في مضامينها وأزمنتها في منزلة التنظير السياسي لها، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، ولن تكون عملة بوجه واحد، ومن هذا المنطلق، فإن المرحلة الراهنة تحتم إثراء النقاشات في مفاصل أساسية للامركزية لدواعي النضوج ورفع الوعي بها، ومدى حاجة الظرفيات لتطبيقاتها الآنية.
سأتوقف في مقال اليوم عند فكرة اللجان الاجتماعية في الولايات، وماهيات الصلاحيات التي منحت لها، وكيف يمكن أن تعزز خيار اللامركزية، صحيح هي -أي اللجان- فكرة سابقة، وتستمر الآن بنفس فكرتها وفلسفة عملها، وارتباطاتها المؤسساتية، وهي فكرة رائعة من حيث المبدأ، ويستمد جوهر روعتها من أن كل ولاية من ولايات البلاد، فيها لجنة اجتماعية، وكذلك من هيكلتها الشراكية، ومن صلاحيات واسعة تنفذ للعمق الاجتماعي لكل مجتمع محلي للولايات.
والمتأمل فيها أي الصلاحيات سيدرك البعد الغائي من تمكين اللجان صلاحيات محلية واسعة، وهو أن يكون في كل ولاية عقل اجتماعي مؤسسي تشاركي، متعدد الجهات، وبصلاحيات تمس قضايا التوازن الاجتماعي في مرحلة التحولات والمتغيرات، والمدهش أن هذه الصلاحيات قد صيغت بمحتويات صالحة للأمكنة وفق أزمنتها المتجددة، لذلك نجدها ملاءمة لطبيعة مرحلتنا الوطنية المعاصرة مع إدخال تطورات محددة لكي تكون جزءا من منظومة اللامركزية - سنأتي على ذكرها لاحقا -، مع التشديد على أن التطبيق قد أصبح ملحا الآن أكثر من حقبة ولادتها.
وتستوقفني هنا ثلاث صلاحيات للجان الاجتماعية، وهي:
أولا: صلاحية تعزيز الجهود المبذولة في تحسين المستوى المعيشي للفرد والأسرة والمجتمع من خلال التعاون مع المجلس البلدي ولجنة الزكاة بالولاية، وهذا التعاون ليس حصريا، وإنما ورد على سبيل رسم خارطة توجيهية للجان الاجتماعية، نستمد ذلك من عموم الصلاحية ذاتها، وإن كان لها تفسير ضيق في فئات الضمان الاجتماعي وأسر الدخل المحدود، وذلك عندما تدخل هذه الصلاحية في سياقات صلاحيات أخرى للجان الاجتماعية، إلا أن ذلك يكون على سبيل حصر مسار الأولويات، فدور اللجان وفق هذه الصلاحية واسعا، ويمكن أن يدخل فيه كذلك قضية الباحثين عن عمل في كل ولاية.
وسواء اتخذ تدخلها مفهومًا ضيقًا كأن يقتصر على الباحثين ضمن فئتي الدخل المحدود والضمان الاجتماعي، أو واسعا كأن يشمل كل الباحثين في الولايات، فإن هذه الصلاحية أداة فاعلة للجنة لاكتشاف فرص العمل الإضافية في الشركات والأجهزة الحكومية في نطاق الحيز الترابي الوطني للولاية، ونميل للمفهوم الواسع للجنة وفق سلم أولويات يبدأ بالحالات الأكثر حاجة للتدخل، مثل تلكم الفئات، ولمن تجاوز عمره سن 40 وهو لا يزال باحثا عن عمل، وهذا يمكن اللجنة من مساعدة الجهود الحكومية في حل قضية الباحثين من منظور صعيد كل ولاية، ويمكن أن تلتقي الولايات داخل المحافظة الواحدة وفق آلية عمل مشتركة للتعاون في حل القضية بين ولاياتها، وكذلك مساعدة الأسر في إقامة مشاريع صغيرة تنتج لها دخلا ثابتا، وهذا خارج سياقات حل قضية الباحثين مركزيا، ويمكن للجانبين التنسيق، والشيء نفسه بين المحافظات لشغل المعروض الزائد أو لدواعي أخرى مهمة.
وبهذه الآلية سيتم تحييد الولايات التي تتمكن من توفير فرص العمل للباحثين عن العمل عن القضية العامة، ومن ثم عن احتقاناتها وتفاعلاتها المستقبلية، وينبغي أن تلجأ كل لجنة اجتماعية إلى رفع شعارات كبيرة حتى يكون هاجسها متعاظما، وإرادتها أقوى لتحقيق الطموحات، ونقترح مثل هذه الشعارات «الولاية الخالية من الباحثين عن عمل»، و«الولاية الخالية من المخدرات»، و«الدخل الآمن والمستدام للأسر محدودة الدخل والضمان الاجتماعي» وقد وجهها القانون إلى ذلك بالتعاون مع لجنة الزكاة في كل ولاية، ومع المجلس البلدي في المحافظة سواء عبر ممثلي الولاية أو مباشرة مع المجلس.
وفي الحالة الأخيرة لن تظهر فوق السطح قضايا مثل، المصروفات والمستلزمات المدرسية.. إلخ وستكون أموال الزكاة والهبات مصدر معالجة مثل هذه الاختلالات بصورة اعتيادية دون أن تأخذ الزخم العلني على الصعيد الوطني، كما أن الأهالي في كل ولاية سيحرصون على تزويد لجنة الزكاة في الولاية بزكواتهم وهباتهم؛ لأنها قد أصبحت تدار بعقول اجتماعية ونخب تخدم المجتمع.
ثانيا: صلاحية الاهتمام بتعزيز القيم والهوية العمانية وتعزيز التماسك والتكافل في المجتمع، وهذه الصلاحية تتناغم مع انفتاح المجتمع على مختلف الثقافات والشركاء الاقتصاديين، ومع حقبة الأفكار العابرة للحدود، لذلك، يكون لكل مجتمع محلي الحق في المحافظة الواعية على منظومة القيم والأركان الأساسية للهوية العمانية بعيدًا عن المركزية السياسية أو مركزية للامركزية، فكل ولاية أعلم بشؤونها رغم المشتركات العامة فيما بينها، لكن هناك مستجدات قد تظهر في ولايات دون أخرى يحتم معالجتها من داخل الولاية، لذلك كان في كل ولاية لجنة اجتماعية، وهي الأدرى بأدوات ووسائل تعزيز قيمها وهويتها، وهي الأعلم بمكونها السيكولوجي والعقلي.
وهذا يعطي لكل ولاية الصلاحية الكاملة دون تدخلات مركزية أو لامركزية في نطاقها، وهذه صلاحية من أهم الممكنات الاجتماعية لكل مجتمع محلي لمعالجة السلبيات التي قد تترتب على قضية الانفتاح أو جنوح المبادرات الفردية في الأعمال الحرة، التي نجد نماذج لها كثيرة، مثل انتشار محلات بيع التبغ داخل الأحياء السكنية وبالقرب من المدارس والمساجد، وكذلك انتشار ظواهر سلبية أخرى.. إلخ.
ثالثا: صلاحية دراسة واقتراح المشروعات الاجتماعية التي تخدم الولاية وفق أولوية أهميتها، وهي مشروعات عديدة لا حصر لها، ويمكن للجان تقديم دراسات واقعية لها لكي ترى النور، كدراسة أوضاع البائعات على بعض الشوارع، ودراسة إقامة مشاريع للدخل للأسر المحتاجة ودور المسؤولية الاجتماعية للشركات في الحل، ودراسة إقامة جمعيات تعاونية في الولايات، والعمل على بلورتها، ودراسة الإسكان الاجتماعي لشباب كل ولاية من ذوي الدخل المحدود، ودراسة إقامة مظلة تجمع فرق العمل التطوعية في الولاية، وتأهليها لمواجهة مختلف الاحتمالات، ودراسة تخفيض تكاليف الزواج..إلخ، وإسناد القضايا لها لإبداء موقفها قبل اتخاذ قرار محلي بشأنها حتى يكون القرار مجمعًا عليه ودراسة تحصين الآداب العامة في ظل الانفتاح.
وهكذا تكون اللجان الاجتماعية في الولايات داعمة للمسارات الوطنية، ومانحة لها الشرعية الاجتماعية من خلال فتحها حوارات مجتمعية واسعة، ومن خلال دورها في الاعتداد بالتوازن الاجتماعي في كل ولاية بجانبيه المادي والفكري، وصلاحياتها شاملة في كل ما يتعلق بالملف الاجتماعي في الولايات بالشراكة مع المؤسسات المعنية فيها، لذلك ينبغي أن تكون اللجان تابعة للمحافظين مباشرة وليس لوزارة التنمية الاجتماعية انسجاما مع قانون المحافظات والمجالس البلدية، وتطبيقا عملياتيا للامركزية، ولدواعي كذلك الديناميكية الترابية/ الجغرافية، خاصة وأن هيكلية اللجان الاجتماعية تسلم بهذا التوجه، حيث يكون الإشراف للامركزي عليها واضحا، لذلك تظل الصفة التقريرية لعمل اللجان مطلبا للامركزية.
كما يستوجب تطوير دينامية عمل اللجان المحددة بأربعة اجتماعات في السنة رغم أن القانون يسمح بتجاوزها، لكنه يضع هذا الحق من صلاحية رئيس اللجنة إذا ما رأى هناك حاجة لاجتماعات أخرى، إلا أن تطبيق صلاحيات اللجان وفق الرؤى والآليات التي نطالب لها، وحتى تفعل أدوارها الاستراتيجية المشار إليها سابقا، تحتم أن يكون لها آليات عمل منتظمة ومبرمجة، وأن تكون اللجان متفرغة، وتعقد ما لا يقل عن اجتماعين في الشهر، وليس أربعة اجتماعات في السنة، وهي بذلك ستمثل أهم صور اللامركزية، ونتائجها ستكون ملموسة للمجتمعات المحلية.