الكـلام، السّـلطـة، الحـقيـقـة
مَـن يمنـح نفسَـه الحـقّ في الكـلام وحـده ولا يحـفَـظ حـقَّ غيـره فيـه لـن يُـصـغيَ، قطـعـا، إلى كـلام غيـره لأنّ هـذا لا يمـلك، في نظـره، حـقّـا في الكـلام. أمّـا إن أفْـلـح الغيـرُ ذاك في انـتـزاع ذلك الحـقّ - وهـو ما يفـعلـه دائمـا رغـما عن إرادة المتـكـلِّـم وحـده - فـما مـن حاجـةٍ بـه إلى أن يصـغـيَ إلى مَـن تكـلَّـم بقـوّة الأمـر الواقـع، لا بـقـوّة الحـقّ؛ هـذا الحـقّ الذي وحـده المتـكـلّـمُ الأوحـدُ - محتـكـرُ الكـلام - يحـدّده، ووحـده يعـتـرف بمـن يسـتحـقّـه... على فـرض أنّ أحـدا آخَـر غيـرَه يسـتحـقّـه!
الإصـغاء إلى الغيـر ممنـوعٌ في معـتـقـد المتـكـلِّـم وحـده، لأنّـه يُـفـسد عليه مفـهومَـه للكـلام وللحـقّ فيه ويـهْـبِـط بـمَـقـامـه من عليـائـه إلى تحـت. إتيـانُ فـعْـلِ الإصغـاء معـنـاهُ تسلـيـمُ مَـن يُـصغي بمشـروعـيّة كلام المتـكـلِّـم، حتّى وإن هـو خـالَـفَ منطـوق كلامِ ذلك المتـكلِّـم. المهـمّ، عنـد المتـكـلِّـم وحـده، أنّ الإصـغـاءَ عـلامـةَ اعتـرافٍ من المُـصـغي بالمُـصْـغَى إلـيه: اعـتـرافٌ بشـراكـته في الحـقّ في الكـلام؛ وهـذا ممّـا لا يجـوز عنـد مَـن وطَّـن نـفسَـه على أنّـه صاحـب الحـقِّ الأوحـدُ فيه، ومَـن كـرّس جَـهْـده لاحتكـاره ومنـع غيـره مـن أن يـزاحمـه عليه. إذا كـان هنـاك مَـن عليه أن يصـغيَ فهـو الغيـر؛ تلك وظيـفـتُـه حين يتـكـلّـم، أو يكـتـب، أمّـا هـو فـوحـده المتـكـلّم، ولا متـكـلّم سـواه. ولأنّـه متـكـلّـم، كان لِـزامـا أن يكـون هناك مُخَـاطَـب، وكان على هـذا المخاطَـب، بالتّـالي، أن يَـهَـبَ سمْـعه لِـمَـا يَـرِد على لسان الأوّل... أو قـلمـه. وعليه، إذا كان هناك مَـن يـنـبـغي لـه أن يصـغـيَ فهـو الغيـر؛ تلك وظيـفـتُـه حيـن يتـكـلّم، أو يكـتب، مَـن هـو أهـلٌ لذلك: المتـكلّـمُ وحـده. لا بـدّ، إذن، مـن أن تُـحْـفَـظ المَـقامـات فلا يُـزرَى بـمَـقامـه إلى حـدّ مشابـهـتـه في المنـزِلـة والقَـدْر بغيـره: هذا أقـلُّ ما يطـلُـبُـه صاحبُ الكـلام لنـفسه تميـيـزا لـه عـن غيـره.
يـفـعـل المـتـكـلّـمُ وحـده ذلك عـن حسـابٍ دقـيـقٍ يجـاوِز مـنازعـه المَـرَضيّـة الـثّـاويـة فيـه (= النّـرجسيّـة) ويتـخـطّـاها إلى أهـدافٍ أبعـد من مجـرّدِ إشبـاع نَهَـم الـولـع بالذّات. يـفعـل ذلك لأنّـه يُـدرك، على الحقـيـقة، أنّ احـتـكار الكـلام وسيـلـتُـه المُـثْـلى لبـسْـط السّـيـطرة على الآخـرين. هـو يعـرف، قـطـعا، أنّ الكـلام رأسمـال ثميـن في مجتـمعٍ يحـتـلّـه الصّـمت على ما فيـه من فيـضِ الكـلام العادي (التّـخاطُـب اليـوميّ)، وهـو لذلك السّـبب سلـطـةٌ لا سبيل إلى الاستـغـناء عنها أو النّـيْـل مـن قـدرها في مضمـار أيّ سعيٍ إلى تحقيق السّـيطـرة: الماديّـة منـها والرّمـزيّـة. على أنّـه يعـرف، بالتّـبِـعـة، أنّـه لا يَـعود سلطـةً حين تصـير هـذه قابلـةً للتّـقاسـم أو للشّـراكـة فيها معه من غيرٍ آخَـر. الكـلامُ السّـلطـة هـو، في عُـرف المتـكـلِّـم وحـده، الكـلام الذي لا يُـقال بأكـثـر من لسانٍ واحـد، وإلا انـتـهـيـنا مع تعـدُّد الألسنـة إلى حـالةٍ من الكـلام السّـائـب الذي يُـبْـطِلـه كـلامٌ، ومن اللّسـان الذي يُخـرِسـه لسانٌ؛ وذلك ليس من السّـلطـة ومعـناها المـركزيّ في شيء... عند المتكلِّـم وحده.
من الواضـح، هنـا، أنّ هـذا المفهـوم للكـلام/السّـلطة مفـهوم سائـدٌ في الثّـقـافـة العربيّـة؛ ليس فـقـط لأنّ لـه جـذورا في بعـض التّـراث الثّـقافـيّ الإسلاميّ، الذي يضيـق بالتّـعـدُّد أو الذي يـربّـي الوعـيَ على الأوْحَـديّـة في التّـفـكـير، بل لأنّ لـه مـا يـشرعِـنُـه في كيـان الـدّولـة العربيّـة نفـسـها. أليست السّلطـة نـفـسُـها فـوق أيِّ قسـمةٍ أو مشاركـة؟ أليس الشّـركاءُ الكُـثـر في القـرار منـتهيـن في عُـرْفـهـا، حُـكْـما، إلى تعطيل القـرار؟ وهكذا لا يـبـتـدع المتـكـلّـم وحـده بـدعةً في ما يعـتـقـده ويقـول بـه، بـل هـو يتـصرّف تـصـرُّف المتـفاعـلِ مع محيـطِـه التّـفاعـلَ المنـاسِـب والمطـابِـق، أي الذي لا يبـدو فيه وكـأنّـه يغـرِّد خارج السِّـرب أو يـجـدّف ضـدّ التّـيّـار، بل يبـدو أميـنـا لِـمَـا هـو راسـخٌ في ذلك المحيـط، مـدروجٌ عليـه ومـألوف. أمّـا حيـن نَـزِن مـعتَـقَـدَه في الكـلام/ السّـلطـة بميـزان المجتمع ومحـصَّـلةِ قِـيـمه وعـوائـدِه ويـقيـنـيّـاتـه فسنُـلْـفيـه ابـنَ بيـئـتـه الاجتماعيّـة بأكـثـر ممّـا كـنّـا نظـنّ؛ الابـن الذي يعيـد، بـزهـوه واستـعلائـه الطّـاووسـيّ، إنتـاج مـا ترك الأقـدمـون فـيـنا من بصْـمات... وروائـح!
تُـطْـلِـعنا ظاهـرة المتـكـلِّـم وحـده على عـقـيـدةٍ ثـقافـيّـة مستـبـدّة بالوعـي العربيّ، والوعـي الإسلامـيّ عمـوما، يـفـكّـر أهـلُ القلـم من داخلـها على اختـلاف مياديـن الـدّرس عنـدهم: فـقهاءً كانوا أو مؤرّخيـن، أو فـلاسفـةً، أو عـلمـاءَ سياسـةٍ واجتـماع، أو أدبـاءً؛ أعـني بـها عقـيدة حيـازة الحـقيـقة الحيـازة الحصريّـة. مـن تصـيـبـه حمّى هـذه العـقيـدة لا يعـود لـديـه ولو شبـهـةُ استـعدادٍ للإصـغـاء إلى غيره؛ إذْ كـيف لمالكِ الحـقيـقة أن يتـلـقّـى «حـقيـقةً» أخـرى مـن غيره والحالُ أنّ الحـقيـقةَ واحـدةٌ لا اثـنـتـان، ولو حصـل وكانت هناك حـقيـقـتـان لَـتَـبَـيَّـن أنّ إحـداهُـما مغـلوطـة، أي ليست حقـيقـة (على مثـال ما كـان يقـول لينين عن أوحـديّـة التّـمثـيل السّياسيّ، وعـن أنّـه إذا كـان هناك حـزبـان شيوعـيّـان في بـلـدٍ واحـد فـإنّ أحـدَهـما، لا محالة، انـتـهازيّ). مَـن يسـكـنه هـذا الاعـتـقـاد بامتـلاك الحـقيـقـة لا يُـلـقي بـالا إلاّ لكـلامٍ واحـدٍ مبـنـيٍّ على ضميـرٍ واحـد هو ضميـر المتـكـلِّـم. وما أغـنانا عـن التّـنـفيـل والإفاضـة في الشّـرح لبيان وجـوه الاستحالة أمام إمكـانِ نشـأة أيِّ لحـظـةِ حـوارٍ في الثّـقـافـة التي يكـون هـذا المتـكـلِّـم وحـده نـموذجَ المثـقّـف فيها!